أبطال فيلم "لا بلد لكبار السن" (أرشيف)
أبطال فيلم "لا بلد لكبار السن" (أرشيف)
الأربعاء 17 يناير 2018 / 20:47

أزمنة الأخوين كوين

تبقى مسارات فيلم "لا بلد لكبار السن"، الثلاثة، دون صدام تقليدي. يموت جوش موتاً عبثياً على يد خارجين آخرين عن القانون، صدفةً، لكن ليس على يد أنطوني شيغور الذي يهرب من مُوَاجَهَة رجل القانون الشريف تومي لي جونز

يقوم فيلم "لا بلد لكبار السن"، 2007، أو “No Country For Old Men”، إخراج الأخوين جويل وإيثان كوين، على ثلاثة مسارات درامية، تكاد لا تلتقي طوال الفيلم، وتقود تلك المسارات الزمنية، ثلاث شخصيات رئيسية.

يبدأ الفيلم بتعليق قوي لرجل القانون، الشخصية الأولى، الشريف إد توم بيل، ويلعب دوره الممثل تومي لي جونز. التعليق الهادئ الشعري، قريب من قصيدة الشاعر الأيرلندي ويليام بتلر ييتس "الإبحار إلى بيزنطة"، ويُجسِّد بيتها الأول، وهو اسم الفيلم، "لا بلد لكبار السن".

العجائز سقط المتاع، المعاطف الرثة المعلقة على الجدران. الأخوان جويل وإيثان كوين قادران على مشهد البداية الشعري، البعيد عن الرومانسية. لقطات الحدود الصحراوية القاحلة بين تكساس والمكسيك، ظلال السماء القاتمة على التلال الرملية ثم يأتي ضوء الشمس العاري، على السهول الفسيحة، طاحونة هواء، عشب بلون الرمل. تومي لي جونز رجل قانون أباً عن جد، لكنه الآن في سن التقاعد، ولا يفهم عنف الجرائم في الزمن الحديث.

زمن الفيلم 1980، المأمور تومي لي جونز، رجل القانون، لا يخاف من العنف، ويعرف أنه مستعد للموت. على الرجل القيام بهذا العمل، وعلى الرجل أيضاً أن يضع روحه في خطر ثم يقول: لا بأس بهذا الخطر. تستدعي جماليات الأخوين جويل وإيثان كوين، رصانة أفلام الغرب الأمريكي.

مشاهد الطبيعة القاسية عند جون فورد في فيلم "الباحثون" أو “The Searchers”، 1956. تقول أغنية شهيرة في فيلم "منتصف الظهيرة" أو “High Noon”، لفريد زينمان، 1952: يجب أن أواجه رجلاً يكرهني أو فلأصبح جباناً رعديداً أو فلأرقد في قبري يجللني الخزي. قد تلتوي جماليات الأخوين جويل وإيثان كوين، الحديثة، كثيراً أو قليلاً، إلا أن جذورها العميقة، تضرب في سينما كلاسيكية عريقة. فالمأمور تومي لي جونز في فيلم "لا بلد لكبار السن"، من سلالة المأمور جاري كوبر في فيلم "منتصف الظهيرة"، وهو أيضاً من سلالة راعي البقر المحارب جون واين في فيلم "الباحثون".

المسار الثاني في الفيلم، بشخصية أنطوني شيغور، القاتل السيكوباتي، يلعب دوره الممثل خافيير بارديم. تسريحة شَعْر شيغور، بشعة، مضحكة، وكابوسية، من زمن السبعينيات، مُضاف إليها أنف خافيير الإجرامي، الذي يلتهم ثلثي وجهه.

شيغور يقتل بدم بارد. يستخدم في جرائمه، أسطوانة أوكسجين موصولة بخرطوم، في نهايته ماسورة معدنية، يخرج منها ويرتد، بدفع الهواء، لسان حديدي قصير، يخترق ما يقع في طريقه، على أن يكون مُلامِساً لسطح الاختراق. شيغور يُقرب فوهة الماسورة إلى جبهة الضحية حتى المُلامَسَة، ثم يضغط بإبهامه على محبس الهواء الصغير، أعلى الماسورة، فيندفع لسان الماسورة مثل طلقة مسدس، ويرتد تاركاً حفرة دائرية في جبهة الضحية. أسطوانة الأوكسجين كانت تُسْتَخدَم في قتل الماشية، وفي جبهتها أيضاً.

يفتقد أنطوني شيغور حس الفكاهة. ففي محطة وقود صغيرة، غائرة في الصحراء، يسأل صاحب المحطة خافيير بارديم، سؤالاً عابراً، إن كان صادف مطراً في طريقه.

خافيير لا يعجبه السؤال، فيستدرج صاحب محطة الوقود، في استجواب مخيف، ينتهي بأقصى ما يستطيع خافيير، تقديمه، من حس الفكاهة، لصحاب محطة الوقود. يسأل خافيير صاحب المحطة: ما هو أكبر رقم خسرته في تحزير رمي العملة؟ صاحب المحطة لا يُراهن على شيء لا يعرفه. يرمي خافيير بملامحه المرعبة، قطعة العملة المعدنية في الهواء، وينزل بها على الكاونتر.

العملة المعدنية تحت أصابع خافيير، وعلى صاحب محطة الوقود، تحزير الملك أم الكتابة، الظهر أم البطن. صاحب محطة الوقود، يجدد بخوف وأدب، عدم معرفته على ماذا يُراهن. بحسم يُنذر بشرٍ مَرَضي: يقول خافيير: اختر فقط، الملك أم الكتابة، الظهر أم البطن. لا يمكنني الاختيار لك. صاحب المحطة: لم أراهن على شيء من قبل. يقول خافيير: بل راهنت طوال الوقت، ولكنك لا تعرف. هل تعرف تاريخ قطعة العملة المعدنية تحت يدي؟ صاحب المحطة: لا. خافيير: 1958، أي أن قطعة العملة، سافرت 22 سنة، لتصل إلى هنا 1980. يختار صاحب المحطة، الطُرَّة، البطن، ويفوز بحياته. ينصح أنطوني شيغور صاحب المحطة بأن لا يضع ربع الدولار المحظوظ، مع العملات الأخرى، حتى لا يختلط بها، ويُصبح مثلها، مع أنه مثلها.

المسار الدرامي الثالث، بشخصية لويلين موس، صائد الغزلان، ويلعب دوره الممثل جوش برولين، دور عمره. يتورط لويلين بأن يشهد آثار معركة لمهربي مخدرات مكسيكيين، لم يبق منهم سوى واحد، يطلب شربة ماء. صائد الغزلان ليس معه ماء. يأخذ لويلين حقيبة مال من ساحة المعركة، ويعود إلى زوجته كارلا جين، وتلعب دور الزوجة، الممثلة كيلي ماكدونالد. يدور هنا أيضاً حوار بين لويلين وكارلا، يُشبه في براعته، حوار شيغور مع صاحب محطة الوقود، عن قطعة العملة المعدنية. يملأ جوش جركلاً بالماء.

تسأله كارلا ماذا تفعل، فيرد جوش بأنه نسي شيئاً، وعليه أن يفعله، رغم غباء هذا الفعل، لكنه سيفعله على كل حال. يقول جوش: إذا لم أعد، أبلغي أمي أنني أحبها. ترد كارلا: أمك ماتت يا لويلين. يُصدم جوش في قول زوجته، وكأنه لا يعرف بموت والدته، وينظر لها باستغراب، ودهشة، وحيرة، وهو يستعدل قبعته، ويقول بيأس ساخر: إذاً سأخبرها بنفسي.

وهذا أقصى ما يستطيع الأخوان جويل وإيثان كوين، تقديمه من حس الفكاهة، والسخرية الباردة السوداء. عودة لويلين إلى المكسيكي بالماء، تورطة في مُطَارَدَة من قِبَل عصابة المخدرات ثم مُطَارَدَة من القاتل السيكوباتي أنطوني شيغور.

تبقى مسارات فيلم "لا بلد لكبار السن"، الثلاثة، دون صدام تقليدي. يموت جوش موتاً عبثياً على يد خارجين آخرين عن القانون، صدفةً، لكن ليس على يد أنطوني شيغور الذي يهرب من مُوَاجَهَة رجل القانون الشريف تومي لي جونز، لكنه يلعب لعبة رمي العملة المعدنية، المميتة، مع كارلا جين، زوجة صائد الغزلان، والتي ترفض المُراهَنَة. يتقاعد الشريف تومي لي جونز مهزوماً أمام عنف الجرائم الأمريكية الحديثة.

يُفكّر تومي لي جونز، بتحايل ما في حساب الزمن، أنه الآن أكبر من والده المتوفي، رجل القانون، بـ 20 سنة. وضع الأخوان جويل وإيثان كوين ثلاث إشارات للزمن على طول الفيلم، وكأنها إشارات على طريق، إشارة سفر العملة المعدنية 22 سنة، لتصل إلى 1980، عند صاحب محطة الوقود، إشارة ذهاب جوش برولين إلى والدته، في عالَم آخر، ليقول لها: أحبك، والحب عند الأخوين جويل وإيثان كوين هو مجرد قول: هالو، إشارة تومي لي جونز بأنه أكبر من والده بـ 20 سنة.