سيدة وحيدة على أرجوحة (أرشيف)
سيدة وحيدة على أرجوحة (أرشيف)
الجمعة 19 يناير 2018 / 20:12

8 مليارات وحيد

يبدو أننا انزلقنا إلى قاع جديد في تاريخ بشريتنا، فها هي بريطانيا تعلن في حدث هو الأول من نوعه عن تعيين تريسي كراوتش وزيرة للتعامل مع مشكلة الوحدة التي يقاسيها قرابة 9 ملايين من مواطني البلاد.

الوحدة أشبه بذلك المرض العضال الذي يسكن الجسد حتى حين يبدو المرء في كامل قوته

وسأتغاضى هنا عن الفرصة الذهبية للإشارة إلى ازدواجية بعض العربان، والذين لم يفهموا في 2016 تعيين معالي عهود الرومي وزيرة للسعادة في الإمارات، ولكنهم اليوم يرون الإحسان كل الإحسان على الجانب الآخر في اعتناء بريطانيا بالوحيدين من أبنائها.

عموماً، لله في خلقه شؤون!

ولكنها فرصة لنشير إلى أنفسنا كما روّضت قلمي على أن يفعل في كل أسبوع أجلس فيه لكتابة هذا المقال.

لنعترف بأننا ننظر بازدراء وشفقة ممجوجة إلى ذلك الإنسان الغربي المُثقل بوحدته. نمط شفتينا بتقزز حين يرتطم بالإسفلت بعد أن يكون قد انتحر لفرط تعاسته، أو ليأسه من انتباه أحد من حوله إلى فرط تعاسته. وتكفهر وجوهنا نفوراً من احصاءات مرتادي عيادات الطب النفسي، والذين نتيقن من أنهم كانوا ليكونوا على ما يرام لو فقط توفّر لهم أب أو أخ أو صديق يستمع إلى همومهم الدقيقة.

ولا أستطيع شخصياً عدّ المرات التي مشيت فيها في شوارع مدينة أوروبية، فسمعت تعليقاً عربياً يأسف على تلك العجوز البيضاء التي يجرها كلب يكاد يزن نصف طن، مع تحليل مكثف من المُعلّق لوضعها الاجتماعي، حيث يجزم بأنها تعاني من عقوق أبنائها وإهمالهم لها، وغالباً ما تفكّر في ترك ميراثها كله لـ"بوبي"، أو أياً ما كان اسمه.

والناس في النصف الآخر من الكوكب يُرثى لهم بالفعل، وهم الذين سمحوا لوحش الحياة المعاصرة أن يبتلعهم بلا هوادة، وأن يطحنهم بين أضراس العمل الذي لا ينتهي، وينهشهم بأنياب رأسماليته الضارية.

ولكن إن كنا نستعيذ بالله من الوحدة الظاهرية التي نراها في مجتمعاتهم، فلا يجب أن نسمح للثرثرة الفارغة حول موائد ترابطنا الأسري وتقاربنا بأن تستر صمت الوحيدين بيننا.

فبينما تتضمن العزلة انطواء فعلياً عن الآخرين، وابتعاداً ملحوظاً عن مجالسهم وتجمعاتهم وأنشطتهم، فإن الوحدة أشبه بذلك المرض العضال الذي يسكن الجسد حتى حين يبدو المرء في كامل قوته. إن الوحدة هو شعور داخلي بالجوع والحرمان، وقد يصيب المرء في أكثر اللحظات التي يُحاط فيها بأفراد العائلة والرفاق لعدم شعوره بالترابط والاتصال مع أي منهم.

من الواضح أننا مجتمعات لا تؤمن بالعزلة، ولا تتساهل معها. فاطمئن، غالباً ليس لك جار عجوز يسكن منفرداً في شقته الضيقة، حيث قد تفجعك رائحة جثته التي لم يعلم بأمرها أحد على مدى أيام طوال.

ولكن حاول ألا تنكر وحدة جميع أولئك الذين أقصتهم أفكارهم ومعتقداتهم وخياراتهم بينما هم محاطون بالوجوه والأعين، وحبذا لو مددت لهم في وسط الزحام البشري الفارغ يداً سرية من التفهّم والتقبّل.