جنديان تركيان على الحدود مع سوريا (أرشيف)
جنديان تركيان على الحدود مع سوريا (أرشيف)
الأحد 21 يناير 2018 / 20:29

على فرض أن السياسة لعبة عقلانية ..!!

يعرف القاصي والداني أن حملتها العسكرية، الأخيرة، تستهدف الأكراد، وأن استهداف الأكراد يندرج في سياق ثوابت استراتيجية تستدعي إجهاض كل كينونة كردية محتملة في سورية والعراق، طالما أنها ترى في كينونة كهذه ما يهدد أمنها واستقرارها

يُفترض بالسياسة، وما يتجلى منها، أحياناً، في لجوء هذا الطرف أو ذاك إلى خيار العنف كحل أخير، أن تنطوي على حسابات استراتيجية، باردة، وبعيدة المدى. وإذا كان هذا هو المتوّقع، دائماً، من كبار اللاعبين وصغارهم (على فرض أن السياسة لعبة عقلانية) فإن حرباً مفتوحة، ومتعددة الجبهات، كالحرب في سورية وعليها، لا توفر انطباعاً جدياً بوجود حسابات بعيدة المدى كهذه، بقدر ما توحي برهانات خاطئة، ومجازفات غير محسوبة. ولا فرق، في هذا، بين كبار اللاعبين صغارهم.

وإذا كان في سلوك تركيا الأردوغانية ما يصلح كوسيلة إيضاح للتدليل على ما ينجم عن حسابات خاطئة من مغامرات فاشلة، ورهانات باهظة التكاليف، فإن في حملتها العسكرية الأخيرة على منطقة عفرين على الحدود السورية ما يعيد التذكير بحقيقة أنها لم تُعد النظر بعد في جدوى وجدية حساباتها الإقليمية رغم اعترافها بفشل رهانات كثيرة في سورية. بمعنى أكثر مباشرة، يبدو أنها لم تتعلّم من أخطاء كثيرة نجمت، دائماً، عن قصر نظر، وتسرّع في اتخاذ القرارات.

يعرف القاصي والداني أن حملتها العسكرية الأخيرة، تستهدف الأكراد، وأن استهداف الأكراد يندرج في سياق ثوابت استراتيجية تستدعي إجهاض كل كينونة كردية محتملة في سورية والعراق، طالما أنها ترى في كينونة كهذه ما يهدد أمنها واستقرارها، ويُعزز النزعات الانفصالية لدى مواطنيها الأكراد.

يبدو هذا الثابت للوهلة الأولى، صحيحاً ومنطقياً تماماً، فخطوط الدفاع عن الدولة التركية شيء، وحدود سيادتها على الأراضي الخاضعة لولايتها السياسية شيء آخر. ومثل هذا التعقيد يوجد في مناطق مختلفة من العالم، تشكّلت دولها القومية الحديثة من شظايا إمبراطوريات قديمة، قسّمتها، واقتسمتها، وصنّفتها، ووحدتها، أو مزقتها، قوى الكولونيالية الغربية منذ أواسط القرن التاسع عشر.

ومع ذلك، لا زالت الدولة التركية تستخلص الدرس الخطأ في قضيتين أساسيتين هما: المجزرة الأرمنية، والمسألة الكردية. فهي ترفض الاعتراف بارتكاب مجزرة بحق الأرمن، في أول عقود القرن العشرين، رغم أن الاعتراف يعني: مصالحة الأمة التركية الحديثة مع تاريخها، ويُعمّق قيم المواطنة وحقوق الإنسان، ويُعيد الاعتبار لجماعة قومية تعرّضت للاضطهاد.

وفي السياق نفسه، تستخلص الدولة التركية الدرس الخطأ في الموقف من الأقلية الكردية، التي يصل عدد أفرادها إلى قرابة 15 مليوناً من البشر. فبدلاً من الاعتراف بالحقوق القومية للأقليات، بما فيها السياسية، والمساواة في المواطنة، تشن، في الواقع، حرباً مفتوحة بالمعنى السياسي، والثقافي، والعسكري من حين إلى آخر، على الأكراد.

وإذا كان من الممكن تبرير ما ارتُكب من أخطاء في حق الأكراد في الماضي بحقيقة أن العسكريين والقوميين هم الذي حكموا تركيا على مدار عقود طويلة، منذ نشوء الدولة الحديثة، فإن هذا التبرير لم يعد مجدياً بعدما تراجع دور الجيش في الحياة السياسية، واستقرّت اللعبة الديمقراطية في البلاد.

ومع هذا وذاك، لم يعد مجدياً أيضاً، بعدما ظهر أفق جديد للعلاقة بين الدولة التركية ومواطنيها الأكراد بعد التفاوض مع زعيم حزب العمّال الكردستاني التركي، عبد الله أوجلان، القابع في سجن تركي، وقد تخلى عنه نظام آل الأسد في العام 1999 محاولة لتحسين علاقته بالأتراك، وهذا ما تجلى أيضاً، في مبادرات طرحها أردوغان وحزبه، لحل المسألة الكردية بطريقة ديمقراطية.

وقد فتحت المفاوضات والمبادرات طريقاً للحل للسلمي، وأعادت الأمن إلى المناطق الكردية، وشجّعت الأكراد على المشاركة في الحياة السياسية، ولكن الحرب في سورية وعليها، منذ اندلاع الثورة على نظام آل الأسد، وانخراط تركيا الأردوغانية فيها بحسابات خاطئة، أعاد الكل إلى المربع الأول، فتراجعت الدولة عن مبادرات سلمية سبقت، وعادت مناطق ذات غالبية كردية في تركيا إلى قوانين الطوارئ، وحكم الجيش وقوى الأمن.

وعلى خلفية كهذه، بدلاً مِنْ بحث تركيا الأردوغانية عن حل سلمي داخلي لقضية الأقلية الكردية، نراها تسعى من خلال مغامرة خارجية، كما يحدث الآن، في عفرين، لتكريس الحل بالعنف، والإنكار، وقوّة السلاح.

وهذه كلها وصفات وأدوات مضمونة لديمومة وتفاقهم المشاكل المستعصية بدلاً من حلها. فأين الحسابات؟