السبت 27 يناير 2018 / 21:33

طريق الصين الطويل والشاق نحو القمة

حين كنا نسمع من بعض أساتذة العلوم السياسية ونحن لا نزال طلابا جامعيين أن نظام القطبية الثنائية الذي وزع العالم على إمبراطوريتي القرن العشرين، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، في سبيله إلى التداعي، وأن قوى دولية أخرى تصعد لتصنع نظاما دوليا متعدد الأقطاب، كانت الصين هي الرهان الأول، وزاد الاعتقاد في هذا التصور بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراط عقد دول "الكتلة الشرقية"، ثم ترسخ مع توالي أزمات أمريكا الاقتصادية والسياسية، والأهم الأخلاقية، حيث أصبح مشروعها محل نقد ورفض وتساؤل وتشكيك وتذمر، لاسيما بعد أن حاولت إعادة الاستعمار بشكله التقليدي إلى الحياة.

وقتها كنا نواجه المستقبل بأسئلة تبدو عصية على إجابات طيعة وجاهزة أو معلبة، ومنها سؤال نردده دوما يقول: "الصين عملاق نائم فمتى يستيقظ؟"، وكنا نحلم بأن هذا الاستيقاظ قد يساهم في صناعة حالة من التوازن والسلم والتصالح والتعاون إلى العالم كافة.

لم تخيب الصين ظننا ونحن نقرأ كتاب الدكتور نصيف حتى عن صعود الصين والهند والاتحاد الأوروبي، لينكسر الاستقطاب الدولي الشديد، الذي كان مبنيا على الأيديولوجتين المتناطحتين، الليبرالية والشيوعية، واللتين تخفيان خلفهما صراعا ضاريا للمصالح والمطامح والمطامع، ويطل برأسه نظام آخر، توالت الدراسات حوله تحت لافتة "النظام الدولي الجديد"، ثم ذاب كل شيء في بحر "العولمة" الفسيح الهائج.

من بين هذه الأسئلة كان هناك سؤالا طرح بشدة على مائدة البحث والفحص والدرس مع مطلع العقد الأخير من القرن العشرين يقول: لماذا سقطت الشيوعية السوفيتية، بينما عاشت الشيوعية الصينية؟ وما الذي منح تجربة ماو تسي تونج تلك الحيوية التي جعلتها قابلة للاستمرار وهي ترى تداعي اللينية ـ الماركسية وانفضاض كثيرين عنها؟

ربما كان هذا هو السؤال الخفي وراء كتاب ظهر باللغة العربية قبل أيام للكاتب الصحفي والباحث المصري المتخصص في الشؤون الصينية الأستاذ عماد الأزرق وعنوانه "شي جين بينج .. الطريق إلى القمة"، خصصه لرصد تجربة الرئيس الصيني الحالي، وسرد قصة صعوده من القاع إلى القمة، وفي رحابها وركابها أطلت التجربة الصينية برأسها، وبانت معالمها.

في أيامنا الأولى كان من سبقونا على درب العلوم السياسية يحدثوننا عن خصوصية الصين، حيث تمتزج التجربة الاشتراكية بالقيم الروحية والفكرية التي تكمن في الكنفوشية والطاوية في سهولة ويسر، ويولد المستقبل على أكف الحاضر دون عنت ولا عناء. وفي الكتاب ما يبرهن على هذا الامتزاج، حيث يقول الكاتب: "الطريق مفهوم راسخ في الثقافة الصينية يقترب من العقيدة، وهو مستمد من الفلسفة الطاوية، وهي ثاني فلسفة منتشرة في الصين بعد الكنفوشيوسية .. وتعني الطريق الذي يجب أن يسلكه المؤمنون وصولا إلى الغايات الأسمى، بداية من بوابة الظلمة إلى نور المعرفة واليقين، وللانتقال من اللاموجود إلى الموجود".

ويلتقط الكاتب هذا التصور ليقول: "لا شك أن شي جين بينج قطع طريقا طويلة وشاقة حتى يصل إلى قمة الهرم السياسي والحزبي والعسكري ليقود بلاده في مرحلة بالغة الدقة في طريقها إلى قمة النظام الدولي، وتحقيق طموحات وأحلام الأمة الصينية، وما يصبو إليه الحزب الشيوعي الصيني، وخطط له طويلا، وعملت من أجله الحكومة والشعب الصيني بمختلف قومياته".

ومن يقرأ الكتاب بعمق يستقر في يقينه أن صعود الصين يقوم على أعمدة أربعة: الأرض أو الموقع الجغرافي، وصناعة القادة، والفلسفة السياسية المتماهية مع التصورات الدينية، والخطة أو المشروع المدروس بعناية. وهي أعمدة رعاها صناع الصين الحديثة بدءا من ماو تسي تونج ( 1949 ـ 1976) الذي وحد البلاد بعد أن عجت بالفوضى ومزقتها حرب أهلية طاحنة، ثم دنج شياو بنج ( 1978 ـ 1992) الذي يعد مهندس الصين الحديثة، والرجل الذي تمكن من تجديد الرؤية الفكرية والمشروع السياسي لبلاده، ومن جعل بوسعنا أن نقول "الاشتراكية تجدد نفسها" في مقابل "الرأسمالية تجدد نفسها" حسب كتاب شهير للمفكر الاشتراكي المصري فؤاد مرسي.
  
في الكتاب نطالع سيرة الرئيس الصيني الحالي، والتي تبين كيف يعد القادة الكبار في هذا البلد الكبير، الذي يصل سكانه إلى 1.4 مليار نسمة، وتبلغ مساحة 9.6 مليون كم مربع، وتعيش في رحابه 56 قومية، ثم نطالع طريقته في الحكم والإدارة والتي تقوم على معرفة دقيقة بأحوال بلاده إأمكانياتها وطاقتها الكامنة وإرادتها ورغبتها في أن تجلس على عرش العالم في هدوء ويسر وسلام، وبعدها نتعرف على سماته الشخصية والتي عددها الكاتب في: الثراء الفكري، وامتلاك مهارات القيادة والإدارة، والتحلي بتكامل الرؤية، والتمسك بالقيم الأخلاقية، وعدم التخلي عن الثوابت، والإيمان بالعلم، والقدرة على التواصل والإحساس بالآخرين، والثقة بالنفس، والتواضع، والانضباط والحزم، والنزاهة والشفافية، والواقعية والعمل الجاد والمتواصل والتجويد المستمر، واحترام القانون، وامتلاك الخيال السياسي والقدرة على تحليل المواقف وتقديرها.

وقد انعكست هذا القيم على خطة التغيير التي تبناها "شي جين بينج" وهو يقوم بإصلاحات هيكلية تعزز قوة التنمية الاقتصادية وجاذبية العرض، وبناء نمط من التنمية المتناسقة أو المتناغمة، والتنمية الخضراء، والتعاون مع الآخرين لتعظيم الفوائد والمكاسب المشتركة، وإصلاح الأخلاق دون نسيان المصالح أو طغيانها، والحرب التي لا هوادة فيها على معوقات التقدم مثل الفساد الإداري والمالي، والقضاء على الفقر، ومكافحة التلوث البيئي.

وانعكس هذا على مبادرات البناء وجهوده من أجل تحقيق "الحلم الصيني" والذي يرمي إلى "تحقيق رخاء الدولة، ونهضة الأمة، وسعادة الشعب"، ومن هنا عملت بكين على تعزيز الابتكار، وبناء قدرات عسكرية فائقة، وفي الوقت نفسه تبنت سياسة خارجية قائمة على مبادئ محدد مثل: اعتماد التفاوض سبيلا لحل الخلافات، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وإرساء دعائم السلام والتنمية والتعاون المتكافئ، والتمسك بالمفاهيم الصائبة والخيرية للأخلاق والمصالح، والإحساس بالمصير المشترك للبشرية، وتبني مفهوم الأمن الشامل.

وينتهي الكتاب برصد وشرح وتفسير التطبيق العملي والواقعي لهذه المبادئ والتصورات في سياسة الصين حيال محيطها الإقليمي الأسيوي، وفي مواجهة أوروبا والولايات المتحدة، والقوى الدولية الأخرى مثل روسيا والهند، ثم علاقتها المتنامية مع الدول العربية، وصولا إلى التغلغل التجاري والثقافي في أفريقيا.

وقد ظهر هذا الكتاب بينما يستعد الحزب الشيوعي الصيني للاحتفال بمرور مائة عام على تأسيسه عام 1921، والذي سيكون مناسبة يقول فيها الصينيون للعالم أجمع إننا نجحنا في بناء بلد عظيم وكبير، قبل أن يحتفل الصينيون بمرور قرن على قيام دولتهم الحديثة في عام 1949، ووقتها قد تكون مناسبة أخرى ليردد فيها الصينيون القول نفسه، مع ثقة واعتزاز أشد رسوخا.

إن هذا الكتاب المهم يقول لنا باختصار إن الوقت قد حان لنهتم بالتجربة الصينية، التي أهملناها طويلا، ونحن نلهث وراء تجارب الغرب وخبراته، ونعتبرها، دون وعي، المرجعية الأساسية، أو المقياس الوحيد، للنجاح، ليس في السياسة والاقتصاد والقيم الاجتماعية وحدها، وإنما أيضا في عالم الثقافة والفنون والآداب.

ومن حسن الطالع أن عددا من المفكرين والخبراء والكتاب العرب قد التفتوا في العقد الأخير إلى أهمية "التوجه شرقا"، لنثري تجاربنا وعلاقاتنا ونوسع فرصنا وخياراتنا، لكن هذا التوجه لا يزال خجولا وحذرا ومتقطعا، وهي آفة، آن الأوان أن ترحل عن حياتنا دون رجعة.