الحجامة(أرشيف)
الحجامة(أرشيف)
الأحد 4 فبراير 2018 / 20:08

لماذا لا أحتجم؟

سؤال يتردد علي كثيراً، في الشارع، في العمل، في السوق، في المجالس، سؤال أراه مرتسماً على جبين حافلات الحجامة التي تجوب شوارعنا بحثاً عن الزبائن وأماكن التجمعات تماماً كما تصنع عربات الآيس كريم، سؤال تراه في وجوه من يرتادون عيادات الحجامة بحثاً عن الأمل بعدما أقنعوهم بنظرية استخراج الدم الفاسد من الجسم، السؤال هو لماذا لا أحتجم؟ مع أن السؤال الصحيح الذي يجب أن يُطرح هو لماذا احتجم؟.

قد يظن بعض الناس أن وجود ترخيص لممارسة الحجامة من جهة صحية أو رقابية يدل على موافقة الأطباء على استخدامها، بينما الحقيقة أن هذا الترخيص لا يدل على أكثر من كون هذا الإجراء إجراء آمناً، ولا يتلازم مع الفعالية التي هي بحاجة إلى دراسة موثوقة لإثباتها

الحجامة هي إخراج الدم من الأوعية الدموية الصغيرة في الجلد باستخدام الكؤوس التي كانت تُصنع من قرون الأغنام، أما الفصد فهو سحب الدم عن طريق الأوردة والشرايين، وكان أبقراط اليوناني من الذين أشاعوا طريقة فصد الدم واعتبرها علاجاً لقائمة طويلة من الأمراض تبدأ بالصرع والسكتة الدماغية وتنتهي بالالتهاب الرئوي، وكانت هذه العمليات تؤدي أحياناً إلى تعرض المريض للإغماء، وردت مثل هذه الطرق العلاجية عن قدماء المصريين والسومريين والرومان، وعندما جاء الإسلام كان العرب يتداوون بالحجامة مثلهم مثل الشعوب التي سبقتهم، ولقد وردت أحاديث تقول إن النبي ص احتجم، وأمر أحد الحجامين أن يُحجم زوجته أم سلمة، وقال في الحجامة إن "فيه شفاء" وأنه "أفضل ما تداويتم به"، في عصرنا صار استخراج الدم لأغراض علاجية بوسائل معقمة وحديثة بحسب حالة المريض ودون الحاجة إلى التمسك بطرق استخراج الدم القديمة باستخدام قرون الحيوانات أو الكؤوس البلاستيكية المستوردة من الصين، قد ينصح الطبيب باستخراج الدم في حالات مرضية محصورة جداً مثل:

1- داء ترسب الأصبغة الدموية ( Hemochromatosis ) حيث يتراكم الحديد في أعضاء الجسم.

2- ارتفاع كريات الدم الحمراء ( Polycythemia ).

3- داء البروفيرية ( porphyria ) وهو ارتفاع مركب "البروفيرن" في الدم والبول مما يسبب مشاكل جلدية وداخلية.

أما في كتب الحجامة التي تدور في فلك غير فلكنا وتهرول في عالم غير عالمنا، فهي تكاد تكون متطابقة في النقول والاداعاءات والتخيلات، لكنها تختلف فيما بينها، وبشدة، في أسماء المؤلفين، تكاد تكون مُجمعة في علاج كل ما يخطر ببال الإنسان مثل النقرس، وخشونة الركبة، وآلام الظهر، والدوسنتاريا، والإمساك المزمن، والكحة، والإسهال، والتهاب المثانة، والدوالي، والسكر، وأمراض العيون، وأمراض القلب، وأمراض الرئة، وكثرة النوم، والعقم عند الرجال، إلخ.

والقائمة تحتاج إلى نفس آخر حتى أتمكن من إكمال نقلها، حيث لم يدع الحجامون مرضاً عضوياً ولا روحانياً ولا نفسياً إلا وادعوا قدرتهم على علاجهم، حتى العِشق لم يسلم من مشرط الحجامين حيث ممكن علاجه بالحجامة عند بعضهم، وهذا يذكرني بعبارات كتب السحر التي ذكرت "معجون الفلاسفة" الذي يعالج جميع الأمراض العضوية.

من أين الإدعاء أن الحجامة علاج لكل تلك الأمراض والأسقام التي وقف الطب أمامها عاجزاً وجاثياً على ركبتيه؟ ألا يُحتمل أن يكون النبي ص قد أُصيب بداء ارتفاع كريات الدم الحمراء والذي يسبب صداعاً وآلاماً في الصدر والأطراف السفلية، فاحتجم واستفاد من هذه الحجامة التي أخرجت الدم من جسمه فقال "خير ما تداويتم به الحجامة"، فهي بالفعل كانت خير ما يتداوى به من هو في مثل مرضه في عصره، أما تعميم الحديث على كل أحد وفي كل عصر فمرفوض بكلام أهل المعرفة، الذين نقل ابن حجر عنهم، أنهم اعتبروا الخطاب في هذا الحديث خاص بأهل الحجاز وأهل المناطق الحارة الذين تميل أجسادهم لجذب الحرارة الخارجة لها إلى سطح البدن، ولا يهمنا صحة تفسيرهم لطريقة عمل أعضاء الجسم في ذلك العصر بقدر ما يهمنا حصرهم استخدام الحجامة في حدود ضيقة.

يقول الشوكاني: "الطبيب يداوي بما ترجح عنده، قال ابن رسلان: وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالأخف لا ينتقل إلى ما فوقه، فمتى أمكن التداوي بالغذاء لا ينتقل إلى الدواء، ومتى أمكن بالبسيط لا يعدل إلى المركب، ومتى أمكن بالدواء لا يعدل إلى الحجامة، ومتى أمكن بالحجامة لا يعدل إلى قطع العرق"، وهذا القول هو الأقرب للمنطق، فالأطباء يميلون دائماً إلى استخدام العلاجات الأقل عدوانية ودموية، وثبت عن ابن سيرين قوله: "إذا بلغ الرجل أربعين سنة لم يحتجم"، وفسر الطبري ذلك بسبب انتقاص العمر وانحلال قوى الجسد فلا ينبغي أن يزيده وهناً بإخراج الدم.

مع تقدم العلوم، تطورت مفاهيم العلاج وأساليبه، وأدركنا أنه لا يوجد دم فاسد في جسم الإنسان الطبيعي حيث أنه يجدد خلايا دمه كل 120 يوماً، وأن تأثير الحجامة في كثير من الأمراض لا يتعدى تأثير البلاسيبو أو الدواء الوهمي، والذي يصاحبه اعتقاد مسبق بفاعلية الحجامة مما يزيد من فرص تحسن بعض الأعراض دون التأثير على سبب المرض.

تقول الجمعية الأمريكية لأمراض السرطان إنها لا تملك دليلاً علمياً على استخدام الحجامة كشفاء للسرطان، وأن الأبحاث التي تتحدث عن نجاح العلاج وردت عن حالات فردية وليس عن أبحاث علمية ومنهجية، وتؤكد كذلك وجود تحيز من قبل بعض من أجروا تلك الأبحاث مما يؤثر على مصداقية تلك الأبحاث.

قد يظن بعض الناس أن وجود ترخيص لممارسة الحجامة من جهة صحية أو رقابية يدل على موافقة الأطباء على استخدامها، بينما الحقيقة أن هذا الترخيص لا يدل على أكثر من كون هذا الإجراء إجراء آمناً، ولا يتلازم مع الفعالية التي هي بحاجة إلى دراسة موثوقة لإثباتها، فإلى ذلك الحين، لا تغتر ببهاء المركز من الخارج، ولا تغتر بادعائهم التعامل مع المختبرات العالمية وإجراء فحوصات خاصة قبل الحجامة، فليس هكذا يورد الجسم يا أيها الحجّام.