السبت 24 فبراير 2018 / 19:07

ثلاث صور لأمريكا في عين العرب.. الشعب والثقافة والإدارة

استفاضت فروع عدة من العلوم الإنسانية في الحديث عن (الصور الذهنية) من حيث تعريفاتها ونماذجها، الحادث منها والنمطي، وقدمت شروحاً عميقة عن العناصر الأساسية لتشكيل تصور شعب ما عن غيره، والبحث عن هذه العناصر في مناهج التعليم والأدب، لاسيما الرواية والقصة والمسرحية ومختلف ألوان الفنون، ووسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، والخطاب السياسي الرسمي وغير الرسمي، ولدى أتباع قوى سياسية وشرائح اجتماعية معينة، وعند رجل الشارع أو الإنسان العادي، ولدى شتى أنواع النخب، لاسيما المثقفين ورجال الأعمال.

شيد العرب على هذه الأرضية ملامح تصورهم عن الولايات المتحدة الأمريكية التي هي حاضر بشدة في الحياة السياسية والاجتماعية العربية، وبشكل لا يمكن تجنبه أو إغفاله. وتتوزع هذه الصورة على فئات ثلاث متفاوتة، هي:

1ـ صورة الإدارة الأمريكية: وتحظى بصورة سلبية دائماً لدى المواطن العربي نظراً لتحيزها المستمر للسياسات الإسرائيلية، وتعاملها الفظ مع الفلسطينيين، الذين تعد قضيتهم مسألة جوهرية بالنسبة للعرب أجمعين، وزاد الأمر سوءا مع استهداف الإجراءات التي اتخذها الرئيس دونالد ترامب لبعض العرب والمسلمين. كما تبدو الإدارة الأمريكية متهمة لدى المواطن العربي بالتواطؤ مع الأنظمة الحاكمة، ومباركة استبداد بعضها، طالما أنها تحقق المصالح الأمريكية، أو على الأقل لا تتسبب في أي عرقلة للاستراتيجية الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط. وحتى لو أعلنت الإدارة الأمريكية أن لديها رغبة في إنجاز إصلاح سياسي في الدول العربية فإن المواطنين يتعاملون مع هذا الإعلان بريبة شديدة، ولا يصدق كثير منهم نوايا واشنطن. وقد ازدادت صورة هذه الإدارة سوءاً لدى العرب بعد الانتهاكات الشديدة التي حدثت لحقوق الإنسان في العراق وقت احتلالها، والتي بلغت ذروتها مع الصورة التي تم بثها عن الجرائم التي وقعت في سجن أبو غريب أو انتهاك حرمات البيوت العراقية والاعتداء على النساء، ثم جاء قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس ليزيد الطين بلة.

2 ـ ـ صورة الشعب الأمريكي: وهناك من بين العرب من يحيل الشعب إلى الإدارة، فيراه سيئاً، أو يحمله مسؤولية الإتيان بكل الإدارات المتعاقبة التي تحيزت لإسرائيل على حساب المصلحة والأمن العربي، أو زكى أو تواطأ مع النزعة الاستعمارية الأمريكية، لكن كثيرين يفرقون بين حكومة الولايات المتحدة والشعب الأمريكي، فيرونه شعباً طيباً لا يمكن أن يؤخذ بجريرة إدارته. ويستند هؤلاء إلى عدة أمور في بناء تلك الصورة الإيجابية، منها أن الأمريكيين غير معنيين كثيراً بالسياسة الخارجية، ومن ثم فإنهم لا يعرفون ما تفعله إدارتهم ضد العرب، وحين يعرفون، مثلما جرى بالنسبة لانتهاك حقوق الإنسان في العراق، فإنهم يرفضون سلوك إدارتهم، ويتظاهرون ضدها. ومنها أيضاً ما يتعلق بإقبال الأمريكيين على الحياة، واحتفائهم بكل صاحب موهبة ومقدرة يحل بأراضيهم.

3 ـ صورة الثقافة الأمريكية: وينقسم العرب في تصورهم لهذه الثقافة إلى قسمين، فهناك من يراها إيجابية، قياساً على القيم الليبرالية التي تنطوي عليها، وهناك من ينعتها بالسلبية، لأن هذه الليبرالية تتناقض في بعض جوانبها مع الكثير من ثقافتنا وخصوصيتنا الحضارية. وينتمي أتباع الفريق الأول إلى الليبراليين العرب بمختلف أطيافهم، وأنصار الفريق الثاني يتجسدون في الإسلاميين بشتى ألوانهم. وتحفل كتب بعض المنظرين للحركات والجماعات الإسلاموية بحديث مستفيض عن (انحلال الغرب) وفي مقدمته الشعب الأمريكي، حتى إن سيد قطب الذي أسست أفكاره لقيام تيارات جهادية عدة في العالمين العربي والإسلامي يعزو كراهيته لأمريكا وأسباب تحوله من شاعر يتغنى بجمال النساء إلى مفكر أصولي سلفي إلى ما رآه بعينيه من انحلال في الشارع الأمريكي أثناء زيارته إلى الولايات المتحدة خلال ستينات القرن الماضي.

لكن هناك في العالم العربي من يقف موقفاً وسطاً بين أصحاب هاتين الأيديولوجيتين المتباينتين، فينظر إلى الثقافة الأمريكية باعتبارها (حمّالة أوجه)، إذ بوسعنا أن نؤمن بالحرية ونتصرف على أساسها من دون أن نجور على ثوابتنا وخصوصيتنا. وأمثال هؤلاء يتفاعلون مع الثقافة الأمريكية كواقع، بغض النظر عما هو موجود من نقد لها على صفحات الكتب والجرائد والمجلات. ويبدو رجل الشارع العربي أقرب إلى هذا الموقف، بل يصل الأمر عند كثيرين إلى حد الفصل التام بين الصورة السلبية التي تدركها الأذهان عن الثقافة الأمريكية وبين أحقيتنا في التمتع بما أنتجته هذه الثقافة من علوم وفنون وأدوات للترفيه.

وتساهم عدة وسائل في صناعة صورة أمريكا لدى العرب، بعضها متداخل وبعضها متجاور، وآخر متناقض، وفي مطلع هذه الوسائل السينما الأمريكية، التي تأتي على رأس السينما العالمية من حيث الكفاءة والقدرات وعدد الأفلام التي يتم إنتاجها سنوياً. ورسمت السينما الأمريكية صورة شبه أسطورية للفرد الأمريكي وللواقع داخل الولايات المتحدة في ذهن المواطن العربي البسيط، الذي يمكن أن يسقط في حبائل الأفلام الاستعراضية وأفلام العنف وأفلام الخيال العلمي، أو تجذبه بشدة طريقة عيش الأمريكيين المرفهة، ومن ثم يرسم في ذهنه صورة مبالغاً فيها للأمريكي وأمريكا. وتوجد القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية والمجلات والصحف والكتب بمختلف موضوعاتها، التي تتدفق من الولايات المتحدة إلى العالم العربي، وبعضها تتم ترجمته إلى اللغة العربية. وهذه المطبوعات ترسم صورة عن مجتمع منجز وحر مهتم بالعلم ويشجع على العمل والعطاء. ومثل هذه الصورة هي التي تدفع الكثير من الشباب العربي إلى الرغبة في الهجرة إلى الولايات المتحدة. وهناك أيضاً وسائل أخرى منها الدبلوماسية وتوظيف المساعدات الاقتصادية، وتقديم الخبرة الأمريكية في مجالات عديدة. لكن كل هذه الوسائل لم تنجح في إزاحة الصورة النمطية في الذهن العربي عن أمريكا، التي تنظر إليها باعتبارها دولة متغطرسة ومتجبرة، مفرطة في الأنانية. وهذا الوضع يقلق الأمريكيين كثيراً، بدليل طرحهم سؤالاًَ جوهرياً عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر هو: (لماذا يكرهنا العالم؟)، بل كان بعضهم أكثر تحديداً وتساءل: (لماذا يكرهنا العرب والمسلمون؟). ولم يقف الأمريكيون عند نقطة التساؤل، أو لم يكتفوا به، بل سعوا إلى تحسين الصورة، عبر حديث عن ضرورة بالإصلاح السياسي في منطقة الشرق الأوسط، وتبني (دبلوماسية الشعوب) التي هي نوع من الدبلوماسية الدولية تستخدم فيه الدول برامج التواصل المعلوماتي والثقافي والإعلامي للتقرب من شعوب الدول الأخرى.

وفي هذا السياق قدمت اقتراحات عدة منها، إنشاء موقعين إلكترونيين أحدهما يبث باللغة الإنكليزية والآخر باللغة العربية على موقع وزارة الخارجية الأمريكية وتزويدهما بمعلومات عن المسلمين في الولايات المتحدة، والطريقة التي يُعاملون بها هناك. ووجد مقترح بطباعة ملصق إعلاني يحمل صورة مسجد في أمريكا تعبيراً عن احترام الولايات المتحدة للإسلام والتزامها بتعدد الأديان والمذاهب والمعتقدات على الأراضي الأمريكية، علاوة على هذا شملت المبادرة ظهور بعض المسؤولين الأمريكيين على شبكات التلفزيون العربية لشرح وجهة نظر بلادهم لنا، واستدعاء سفير أمريكي سابق يتحدث العربية لكي يقدم وجهة نظر واشنطن بلسان عربي مبين على شاشات التلفزة العربية، ودعوة البيت الأبيض لسفراء الدول الإسلامية لإفطار رمضاني، قامت بعده وزارة الخارجية بدعوة قادة المسلمين في الولايات المتحدة إلى إفطار آخر، كما استقبل الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش بعض أطفال المسلمين الأمريكيين للاحتفال معهم بعيد الفطر المبارك في البيت الأبيض نفسه، ودعا بعض قيادات المسلمين والعرب في أمريكا وخارجها بالإضافة إلى مجموعة من خبراء الدعاية والإعلام والاتصالات للتشاور معهم حول أفضل سبل التواصل مع الرأي العام العربي، وكيفية إقناعه بوجهة النظر الأمريكي، وخاطب الرئيس السابق باراك أوباما العالم الإسلامي من جامعة القاهرة، وحاول تهذيب النزعة الاستعمارية لبلاده، وبعضها موجه بالطبع إلى العالم الإسلامي، لكن هذه الصورة تراجعت مع تقدم ترامب في الحياة السياسية، والذي بنى جزءا كبيرا من دعايته على عداء للمسلمين والعرب، تسرب في حديثه عن مواجهة الإرهاب.

ولم يكن البرنامج الأمريكي لتحسين الصورة، قبل ترامب بالطبع، يتمتع بسلامة منهجية فهو مفرط في المركزية والتنميط والتسطيح، لأنه يتعامل مع العالم العربي إعلامياً على أنه كتلة واحدة متجانسة، ولم يلتفت إلى الأوضاع المحلية، التي تنطوي على اختلافات ثقافية وسياسية. كما أن هذا البرنامج لم يعن بتحسين الواقع، أي وجود سياسات أمريكية عادلة حيال المنطقة، بل يصب اهتمامه على تحسين الصورة، مما يجعله برنامجاً للتزييف الإعلامي، وليس خطة عمل جادة ترمي إلى القضاء نهائياً على الصورة الذهنية السلبية للولايات المتحدة في الذهنية العربية.