ضحايا قصف غلى الغوطة الشرقية.(أرشيف)
ضحايا قصف غلى الغوطة الشرقية.(أرشيف)
الأحد 25 فبراير 2018 / 19:46

السابقة السورية

يمكن لنظام يجابه تحدياً غير مسبوق، ويعاني من نقص في الشرعية، اختراع هذا النوع من الإرهابيين لتشويه صورة معارضيه، وتبرير خيار الحرب الشاملة كحل أوّل وأخير

أخطر ما في حمّام الدم السوري أن ما يفعله النظام بشعبه يمكن تحويله إلى سابقة في علاقات أنظمة الحكم بشعوبها، وفي العلاقات الدولية. وهذا يعني أن أنظمة مختلفة، وفي مناطق مختلفة من العالم، يمكن أن تقتل شعبها إذا امتلكت ما يكفي من قوّة النيران، وتحالفت مع ما يكفي من القوى الإقليمية أو الدولية النافذة، واستعانت بما يكفي من القوّات النظامية والميليشيات الأجنبية، وإذا تصرّف المجتمع الدولي بما يكفي من التواطؤ، أو إذا فتر اهتمامه، أو أعيته الحيلة.

وفي صميم هذه السابقة أن القتل، هنا، لا يتجلى في اعتقالات جماعية، أو اضطهاد منظم، ومصادرة للحريّات، وقتل المعارضين خارج القانون، بل يتجلى في صورة حرب شاملة تُعامل فيها قطاعات كبيرة من السكّان تُعد بالملايين، بوصفها عدواً يمكن قصفه بالطائرات، والمدفعية، والصواريخ، وحصاره، وتجويعه، لإرغامه على الاستسلام.

وفي صميم هذه السابقة، أيضاً، أن وصم المعارضين بالإرهابيين نبوءة تحقق نفسها، ففي عالم تعولم، وتعددت فيها أشكال الشبكات المالية، والأيديولوجية، العابرة للحدود والقوميات، وانهارت فيه ضوابط الأمن الإقليمي والدولي، يمكن للميليشيات الإرهابية الجوّالة أن تكون حقيقة ملموسة على الأرض.

ولأنها كذلك، يمكن للمعنيين بإشعال فتيل الحروب الأهلية صناعتها، وخلقها لا من عدم بل من بنية تحتية توفرت عناصرها وشروطها. وبهذا المعنى يمكن لنظام يجابه تحدياً غير مسبوق، ويعاني من نقص في الشرعية، اختراع هذا النوع من الإرهابيين لتشويه صورة معارضيه، وتبرير خيار الحرب الشاملة كحل أوّل وأخير. وهذا ما فعله نظام آل الأسد في سورية، الذي صبّت الماء في طاحونته قوى إقليمية ودولية تدّخلت في سورية خدمة لمصالحها الذاتية.

وعلى خلفية كل ما تقدّم يبدو نظام آل الأسد وسيلة إيضاح مثالية للفشل في إرساء قواعد للأمن الإقليمي والدولي بعد نهاية الحرب الباردة، وفي اللحظة الرمادية التي يعيشها العالم اليوم، والتي تهب فيها رياح حرب باردة جديدة لم تتضح معالمها ولا ضوابطها، بعد، يمكن تكرار السابقة السورية في أي مكان آخر من العالم، طالما توفّرت ظروف مشابهة.

وما يبرر القلق في هذا الشأن أن للسابقة السورية دلالة أخلاقية قبل أن تكون سياسية. فالدلالة الأخلاقية للحرب العالمية الثانية، مثلاً، تجلّت في مجابهة العنصرية، والاستعلاء القومي، واحتلال أراضي الغير بالقوّة، وجريمة الإبادة الجماعية. ورغم أن العالم لم يكن مثالياً تماماً بعدها، إلا أن محاكمة مجرمي الحرب النازيين، وسن قوانين لمكافحة العنصرية، ومجابهة شمولية الكتلة الشرقية بأنظمة الديمقراطيات الغربية، أسهمت في تكريس حقوق الإنسان، وأدت في نهاية الأمر إلى انهيار الأنظمة الشمولية نفسها. ولعل في هذا ما يفسّر النفوذ الكبير لمسألة حقوق الإنسان على مدار عقدين بعد انهيار جدار برلين.

ولكن هذا كله يبدو في مهب الريح الآن. فالعولمة، التي لا يحكمها سوى منطق السوق، والفشل في إنشاء نظام دولي جديد يكون أكثر عدلاً وسلاماً على أنقاض عالم الحرب الباردة، وما نجم عن بروز قوى جديدة من فوضى تعددية الأقطاب وتضارب المصالح والقيم، أسهم في تآكل ما بدا للوهلة الأولى، في عقد التسعينيات، كقيم كونية أصبحت سائدة. ولا يبدو من قبيل المجازفة التحذير من مخاطر ما أصاب القيم السائدة في الديمقراطيات الغربية من وهن، وتأويلها كميل عام يتجلى حضوره في مناطق مختلفة من العالم.

على خلفية كهذه، وفي عالم كهذا، تتبلور خطورة السابقة السورية، وقابليتها للتعميم. لذا، ينبغي العثور في مشاهد القتل والدمار، القادمة من الغوطة الشرقية، والتي نراها على شاشة التلفزيون صباح مساء، وكل ما سبق ورأيناه على مدار سبع سنوات دموية مضت، على دلالات أخلاقية وسياسية تتجاوز الحالة السورية، وما وسمها من فوضى وخصوصيات.

فالسابقة الأسدية في سورية قابلة للتعميم، وما أصاب ضمير العالم من تبلّد، وإحساس بالعجز، أو التواطؤ، في صميمها، بل ويمثّل عنوانها الرئيس. لن يكون العالم أفضل بعد انتصار نظام آل الأسد، في دمشق، على شعبه. ولن يخشى طغاة، في كل مكان آخر، من قراءة كتاب الإيضاح السوري بكفاءة عالية، واستخلاص الدروس.