سبنسر تريسي في "العجوز والبحر" 1958 .(أرشيف)
سبنسر تريسي في "العجوز والبحر" 1958 .(أرشيف)
الأربعاء 28 فبراير 2018 / 20:03

العجوز والبحر

السمكة ذات السيف، تجر العجوز سانتياغو، ومركبه، إلى وسط البحر، تجره النهار بأكمله، والليل بأكمله، وفي اليوم التالي يشعر العجوز بضعف السمكة

في ربيع عام 1950 لم يكن أحد يعلم بأن همنغواي قد بدأ بكتابة "العجوز والبحر". هناك على ساحل بحر كابانا، اصطاد العجوز سمكةً كبيرة من سمك السيف، وهي ما زالتْ معلقة مع الطعم بالسنارة. همنغواي لم يتحدث مع زوجته عن كتابة هذه الرواية، مع أنه كان يطلعها دائماً على مشاريعه. لكن مشروع هذه الرواية، فرض عليه صمتاً، ربما أن الحديث مع زوجته، يرفع سقف الطموح الجمالي للرواية بشكل عام، فالثغرة التي تتسرب بين الحديث عن الرواية، وبين ما تم إنجازه بالفعل، تحبط عمله، وتلزمه بقيد خفي، وكأنه إذا تحدث مرةً مع زوجته عن الرواية، فعليه أن يتحدث معها مائة مرة، أثناء عمله. كانت قوى همنغواي الجسدية على أحسن ما يكون، أنقص من وزنه عشرين كيلو غراماً. إنقاص الوزن كان هاجس همنغواي، فهو يحب الطعام والشراب، وكتابه أو روايته "الوليمة المتنقلة"، زاخر بمشاهد الطعام والشراب.

قال همنغواي لصديقه الكاتب الأمريكي سكوت فيتزجيرالد، الحاضر في كتاب "الوليمة المتنقلة"، باسمه وشخصه: ليت باستطاعتي إنهاء الرواية بشكل سريع وعاجل، حتى يتسنى لي اللحاق بكل ما أكتبه. كتابة همنغواي عكس ما كان يتمناه، متأنية، لا زوائد، ولا ترهلات فيها، المشاهِد مرسومة بعناية، الكلمات قليلة، الصمت يُخيم على وصف دقيق لبندقية أو لقارب نيك آدمز في رواية "إن كنت تملك وإن كنت لا تملك". أمنية همنغواي حققها الروائي الأمريكي جاك كرواك في روايته "على الطريق"، وحققها أيضاً بشكل وحشي، دوستويفسكي في كل أعماله. الغريب أن همنغواي كان شديد النفور من روايات دوستويفسكي. كان كرواك ودوستويفسكي يسبقان بجسديهما ما كانا يحلمان بكتابته.

اكتشف همنغواي أن الكتابة كالرسم تماماً، حذف باستمرار، ودقة متناهية، وبساطة، وتجنب دائم للجماليات اللغوية الظاهرة، وإخلاص في العمل. الكتابة بوضوح عبر جمل قصيرة، قليلة، البعد عن الدوافع النفسية، والتركيز على فعل الشخصيات، مثلاً الصياد وهو يُعد بندقيته أو يقوم بتنظيفها، إخفاء وجود الكاتب بعيداً عن نظر القارئ. الرجل العجوز يصطاد على مركبه وحيداً. يخرج العجوز إلى البحر مدة أربعة وثمانين يوماً على التوالي دون أن يوفق في صيد سمكة واحدة. الصياد العجوز سانتياغو، ضعيف، هزيل، تجاعيد على رقبته، آثار الحبال التي تسحب السمكة على يديه. البحر والشمس والوقت، عناصر مثالية لصنع الصمت. فاز العجوز بسمكة، لكنها قوية، لو شد الحبل، لفقدها بسهولة. تدفع السمكة، ذات السيف الطويل، نفسها إلى أعلى. الممثل سبنسر تريسي في دور الصياد العجوز الكوبي سانتياغو. رغم عظمة سبنسر تريسي إلا أن فيلم "العجوز والبحر"، 1958، أقل من الرواية بكثير. لقطات السمكة العملاقة في الهواء فضية، لامعة، تقاوم حبل الصياد، تبدو من مكان آخر، عندما تنتقل اللقطات إلى الصياد سبنسر تريسي في مركبه، وكلما زاد انتقال اللقطات بين صراع السمكة، وبين سبنسر تريسي في مركبه، زادتْ حدة انفصال المكانين.

وصف همنغواي موهبة سكوت فيتزجيرالد في كتاب "الوليمة المتنقلة"، بالكلمات الآتية: كانت موهبته طبيعية مثل رسمٍ للغبار على أجنحة فراشة، لا يفهم سكوت ذلك أحياناً، أكثر مما تفهمه الفراشة، ولا يعرف متى يتعرض ذلك الرسم للزوال، وأصبح مؤخراً واعياً بجناحيه المعطوبين، فلم يعد بوسعه الطيران، وصار يتذكر فقط عندما لا يتطلب الأمر مجهوداً، وعندما يكون تحت تأثير الكحول، ذكرى حياة الفراشة.

السمكة ذات السيف، تجر العجوز سانتياغو، ومركبه، إلى وسط البحر، تجره النهار بأكمله، والليل بأكمله، وفي اليوم التالي يشعر العجوز بضعف السمكة. كتب همنغواي وكان عائداً من أفريقيا: عندما يكون المرء في وسط البحر وحيداً، يعرف بأن المياه منذ خلق البشرية، وهي على هذا النحو تجري، وأن الأشياء التي يتعلمها المرء حوله، تكون قيمة ودائمة، لأن المياه كانت تجري، وعبر كل أزمان الهنود والإسبان والإنجليز والأمريكان والكوبيين، وعبر كل أشكال الأنظمة، وعبر الغني والفقير، وعبر كل ضحايا البؤس، وما زال البحر يتحلى بزرقته دون تغيير.

في باريس التقى همنغواي بالآنسة جيرترود شتاين، الشاعرة الأمريكية التي أطلقتْ أحكاماً فنية قاطعة على مشاهير الأدب في بداياتهم، وأثبتتْ الأيام أنها لا تفهم شيئاً في الأدب، وغاية ما هنالك، أنها كانت سيدة صالونات شهيرة، وتتمتع بعلاقات متشعبة في المجال الأدبي الباريسي. قالت الآنسة شتاين لهمنغواي عن رواية "العجوز والبحر"، بعد قراءة غير مكتملة: أنت صحفي جيد، إنك تصف، وهذا عمل الصحفي، ولكنك لا تصف بصورة جيدة، وأما الكاتب فإن عليه ألا يصف أبداً.