الخليفة المأمون(تعبيرية)
الخليفة المأمون(تعبيرية)
الأحد 4 مارس 2018 / 18:32

خلق عدوان أم خلق قرآن

لو لم ينتقم الحنابلة من المعتزلة في أيام المتوكل لسجلوا نقطة تسامح كبيرة في صالحهم، لكنهم ردوا للمعتزلة الصاع صاعين وثلاثة وأربعة حتى بعد انقراضهم

كثيراً ما تشتعل الحروب الدموية والتصفيات الفكرية لأسباب عظيمة في الظاهر لكنها تافهة في الباطن، فداحس والغبراء استمرت أربعين عاماً من أجل فرسي رهان بين قبيلتين عظيمتين من العرب، وحرب البسوس استمرت هي الأخرى أربعين عاماً بسبب خلاف حول ناقة امرأة اسمها البسوس والتي أفرزت لنا أسطورة الزير سالم، الذي أراد الانتقام لمقتل أخيه الذي كان أحد ضحايا البسوس التي ربما انتهى بها المطاف في أحد قدور بني تغلب، وسويسرا هي الأخرى لم تسلم من عشق الحيوانات، فتقاتلت مقاطعتين فيها بسبب اختلافهما في الدب المرسوم في الشعار هل هو دب أنثى أم ذكر، إن العقل الجمعي للأطراف المتنازعة يلعب دوراً محورياً في تغذية جذور أي صراع، والحوار بين الجماهير المندفعة يختلف عن الحوار بين الأفراد الذين عندما يختلون بأنفسهم فإنهم يصيرون عقلانيين أكثر من عقول الجماهير مجتمعة، وخير من كتب في هذا الموضوع هو "غوستاف لوبون" في كتابه (سيكولوجية الجماهير).

من أشهر المعارك الفكرية التي اندلعت في التاريخ الإسلامي هي معركة خلق القرآن التي لم تخمد نارها في كتب العقائد بالرغم من اختفاء أحد طرفي النزاع من الساحة الفكرية.

بدأت القصة في مجالس الحوار والمناظرات التي كانت تناقش كل عظيم وتافه، ثم يذهب كلا الطرفين إلى بيوتهم آمنين سالمين ليعودوا في اليوم التالي لمناقشة ما تبقى من مسائل البارحة، لكن في يوم من الأيام استيقظ الخليفة المأمون من النوم بسبب جاثوم أصابه فاعتنق القول بخلق القرآن.

هنا تبنت السلطة العباسية مذهب الاعتزال رسمياً وجعلت من عقيدة خلق القرآن جواز سفر للمعاملات الرسمية، وصار القول به ضرورياً للحصول على رخصة مزاولة القضاء والتدريس والتحديث.

أراد المعتزلة كما يبدو، تنزيه الله تعالى من النقصان، فهم يرون أن القرآن كلمة الله، ويجب أن يكون مخلوقاً وإلا صار كلام الله موازياً لذاته، فتخوفوا أن يكون هذا الاعتقاد نظير اعتقاد المسيحيين في المسيح الذين جعلوا منه كلمة الله المنبثقة من ذاته الإلهية، ومع أن المعتزلة هم أصحاب الفكر الحر الذين كرسوا فكرهم من أجل تأصيل مفاهيم الحرية والعدالة في الإسلام، إلا أن الرواية الشائعة تقول إن ذلك العلم النظري لم يمنعهم من التضامن مع المأمون لإطلاق العنان لحرسه الخاص ليمتحن المعارضة التي تصدر مشهدها أهل الحديث في بغداد، فسجن أهل الحديث وعذبوا وطوردوا في أقاصي الأرض، ولم يزعزع ذلك من إيمان إمامهم أحمد بن حنبل الذي ظل ثابتاً على موقفه من القرآن، فطلب من السلطة عدم الخوض في هذا الموضوع لأنها مسألة لم يتعرض لها لا القرآن ولا السنة ولا الصحابة، فلم الخوض فيها وامتحان الناس عليها؟

قدم د. فهمي جدعان في كتابه "المحنة" أطروحة مختلفة عن الطرح الكلاسيكي لمحنة خلق القرآن، حيث تضع هذه الأطروحة الرواية الشائعة في قفص الاتهام، وتُظهر فضل السلطة السياسية في تأجيج الصراع بين السياسي والديني.

فالمأمون لم يُثر هذه المسألة بالذات إلا عقاباً لأهل الحديث الذين وقفوا في صف أخيه الأمين أثناء حربه ضده، وكان المأمون يخشى سلطتهم على الناس فأراد رد الجميع إلى حظيرة ملكه عن طريق فرض هذه المسألة التي لم يكن فيها "أحمد بن أبي دؤاد" إلا ممثلاً للإرادة السياسية ومؤدياً لوظيفته الرسمية كقاضي قضاة، وكان أحياناً يحاول التخفيف من وطأة العقاب على مخالفيه إلا أنه وُوجه بحملة تكفير من قبل أحمد بن حنبل، ولم يكن يُعرف لابن أبي دؤاد أي آراء كلامية حتى شكك جدعان في أنه معتزلياً. إذاً فالمحنة كانت ذريعة لتفجير صراع ولم تكن سبباً لبدء ذلك الصراع، فلم يثبت ضلوع المعتزلة في تأجيج فتنة خلق القرآن، ولم يتورطوا في حملات التفتيش الحكومية المتعلقة بها.

وصلت الحملة ذروة سخفها حين اشترط الواثق لفداء الأسير العباسي في بلاد الروم أن تكون عقيدة الأسير القول بخلق القرآن، وفي عهد المتوكل - الذي يعتقد البعض أنه محيي السنة وقامع البدعة – ظل حال أحمد بن حنبل في عهده كما كان في عهد من قبله، ووجه المتوكل له أمراً بلزوم بيته وعدم حضور الجمعة، واتهمه بأنه يأوي أحد رموز المعارضة في بيته، ثم بُرئ أحمد من هذه التهمة وقُرب من المتوكل، في المحصلة خرج أحمد من الفتنة منتصراً، فمات ثلاث خلفاء عباسيين – المأمون والمعتصم والواثق – وهو ثابت على مبدئه، ثم عندما استلم المتوكل زمام السلطة نكل بالمعتزلة لأسباب سياسية حتى اجتث فكرهم وعلماءهم دفعة واحدة.

لو لم ينتقم الحنابلة من المعتزلة في أيام المتوكل لسجلوا نقطة تسامح كبيرة في صالحهم، لكنهم ردوا للمعتزلة الصاع صاعين وثلاثة وأربعة حتى بعد انقراضهم، ولم يقتنعوا أن هذه المسألة لا يُبنى عليها عملياً أي ثمرة مهمة، فظلت تُدرس في الحلقات الدينية وكأن سيوف المعتزلة تُسن في الشوارع والطرقات، فانظروا كيف بدأت مسألة خلق القرآن من تنزيه لذات الله وانتهت بسفك دماء عباد الله التي هي أكرم عند الله من هدم بيت الله.

قال لي سائق تاكسي سويسري أنهم لم يروا شبح حرب منذ 700 عام، فلقد هلك عشرات الملايين من البشر حولهم وهم في أمان وسلام وطمأنينة، تعلموا أن صورة دب أنثى لا تبرر أبداً سفك الدماء باسم قدسية الأفكار ولا تبرر سفك الأفكار باسم سطوة الأقدار.