الكاتب فرانز كافكا.(أرشيف)
الكاتب فرانز كافكا.(أرشيف)
الأربعاء 14 مارس 2018 / 20:10

بطاقة تعريف

استراتيجية كافكا في رواية "القصر"، تقوم على حركة البناء والهدم، يبني القيمة الفنية، ثم يهدمها، ثم يبنيها مرةً أخرى

تحمل بدايات الأعمال الفنية، أهمية قصوى في نظر قارئ، استقر ذوقه عبر الزمن، على انتخاب بعضها، لتكون دليلاً جمالياً، على كيف تُصنع بدايات الأعمال بشكل عام. تبدأ رواية "القصر"، لفرانز كافكا بالمقطع التالي: كان الوقت ليلاً عندما وصل "ك". كانت القرية غارقة في ثلوج كثيفة، ولم يكن الناظر إلى التل الذي يقوم عليه القصر، يرى شيئاً، فقد كان الظلام والضباب يُحيطان به كل الإحاطة، ولم يكن هناك شعاع من نور، ولو خافت، يُظهر شيئاً من ملامح القصر الكبير. ووقف "ك" طويلاً على الجسر الخشبي الذي يصل من الطريق الزراعية إلى القرية، ورفع بصره إلى أعلى ناظراً إلى فراغ ما هو بفراغ.

أول شيء يصل إلينا أن كافكا يبخل على القارئ باسم كامل لبطله، ويكتفي بحرف واحد، وهو "ك"، ولهذا نستنتج بالقياس، أن تاريخ "ك" القريب أو البعيد، مُستبْعَد من الرواية، بل يستبعد كافكا أيضاً بطاقات التعريف التشريحية التي هي مادة أساسية في الأدب، ملامح الوجه، لون العينين، لون البشرة، طول أو قصر القامة، النحول أو البدانة، أي يستبعد جسد بطله قبل دخوله إلى الدراما. كأنّ كافكا يريد لبطله أن يكون شبحاً شفافاً حتى لا يؤثر حضوره الجسدي على رهافة وتعقيد شخصيات القصر وما يحيط به.

نعلم بعد قليل، أن "ك"، هو موظف المساحة الذي تلقى دعوة عمل من قِبَل القصر، لكن الدعوة غير موثوق فيها من قِبَل القصر أيضاً، ويبدو أن طرفاً من جهاز القصر قام باستدعاء "ك"، لكن الدعوة لم تُترْجَم إلى حاجة ماسة في النهاية، وهذا لا يعني أن جهاز القصر لا يسير على ما يُرام، وأن أطرافاً فيه تتصرف كما يحلو لها، بل إن الأمر ينسجم مع قلة شأن "ك"، وضآلة حجم مهمته، بالنسبة للقصر. وبالمثل يشعر "ك" بخيبة الأمل في الصباح، عندما يكتشف أن القصر لا يغطيه الثلج إلا قليلاً، وأنه يتكون من مجموعة من المباني التي توشك أن تكون مدينة صغيرة، وأن له برجاً واحداً لا يعلم الناظر إليه، هل هو برج كنيسة أم هو برج مسكن، ثم أطال "ك" النظر، فتبين له، أن القصر الذي ظنه في البداية، قصراً منيفاً، رائعاً، لا يزيد عن كونه مدينة بائسة من الحجر الهش. استراتيجية كافكا في رواية "القصر"، تقوم على حركة البناء والهدم، يبني القيمة الفنية، ثم يهدمها، ثم يبنيها مرةً أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية.

 ولأن المسافة بين حركة البناء والهدم، غير متساوية زمنياً، ولأن حركة البناء تحمل داخلها بذور هدم كامنة، ولأن حركة الهدم تحمل داخلها بذور بناء كامن، فإن القارئ ينسى تقريباً أثناء القراءة، استراتيجية كافكا المعقدة في البناء والهدم، ويعتقد أنها محض سراب، وأنها من أعراض إعادة القراءة.

تتراكم مُحَاوَلات "ك" في الوصول إلى القصر، وكلها مُحَاوَلات تنتهي بفشل هادئ لا يستدعي حتى انفعالاً قوياً من "ك"، الذي يبدو أنه لا يسعى بجدية لشيء ما، وكأنَّ مُحَاوَلاته تأتي صدفةً، وأثناء ممارسات يومية فاترة. على سبيل المثال، يلتقي "ك" بشاب اسمه برناباس، يعلم منه أنه يعمل ساعياً بين القرية والقصر، وأنه يحمل ل "ك" رسالة من رئيس الإدارة العاشرة بالقصر، واسمه كلم، يبلغه فيها أن يتصل برئيس القرية، ليعرف منه تفصيلات مهمته، ويُبلغه بأن برناباس هذا، وُضع تحت تصرفه، ليكون همزة الوصل بين "ك" والقصر. يسير "ك" مع برناباس، معتقداً أنهما يتجهان مُباشرةً إلى القصر، لكن "ك" يكتشف أن طريق السير ذهب بهما إلى بيت برناباس، وعندما شاهد "ك" والدي برناباس، وأختيه أماليا وأولجا، عرف أن هذه العائلة البائسة لا تتصل بالقصر. من جانب آخر أهل القرية لا يصدقون "ك"، فمَنْ الذي طلب منه أن يمسح قريتهم؟ إن حدودها معروفة منذ سنين طويلة، فما الذي تغيَّر فيها حتى تُمْسَح مرة أخرى؟ إنهم لا يصدقون أن كلم، أكبر شخصية في القصر، قد طلب منه هذا. يتقرب "ك" من فريدة عشيقة كلم، ويفكِّر في مساومة كلم بها.

إذا أردنا بطاقة تعريف وصفية ل "ك"، مفقودة في رواية "القصر"، فليس هناك أفضل من وصف صديقه يانوش: كان أنفه واضح البروز، وعيناه رماديتين مع زرقة خفيفة، وفوقهما جبهة عريضة. وكانت ترتسم على وجه كافكا دائماً شبح ابتسامة حزينة. كان وجهه الشاحب يصطبغ بالسمرة. وكان يستعين في كلامه بأعضاء جسمه ووجهه، وإذا استطاع أن يكتفي بحركة من حركات تلك الأعضاء عن الإجابة بلسانه، فعل. كان بسيطاً خجولاً، فكأنما يقول لمن يحدثه: أرجوك إنني أقل كثيراً مما تظن، وإنك تستطيع أن تسدي لي خدمة كبرى إذا تجاهلتني.