ذبابة على حافة صحن (أرشيف)
ذبابة على حافة صحن (أرشيف)
الثلاثاء 20 مارس 2018 / 20:44

فصل الخطاب في حقيقة حديث الذباب

يبدو أنني بحاجة إلى وضع عنوان رنان كهذا للتعامل مع تلك الذبابة المسافرة عبر الزمن والتي تحلق في هوائنا كلما سنحت لها الفرصة.

هؤلاء المتحمسون لحديث الذبابة هم أول من يبادر لغلق النوافذ وسكب الطعام والشراب الذي يحل عليه الذباب، لكن عندما يمارسون هواية التنظير فإنهم يمتحنون الناس في قراءتهم للسنة النبوية

ذات مرة صعد طالب طب المنبر في أحد مساجد أوروبا وقال للناس إذا وقع الذباب في كوبٍ فاغمسوه وأخرجوه ثم اشربوه ولا تقولوا "أخ" أو "وع". وفي كل مرة، يخرج علينا البعض بحزمة أبحاث تثبت وجود مضاد حيوي في أحد جناحي الذباب. كل ذلك ليؤكد صحة فهمه لحديث البخاري :"إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر دواء". هؤلاء المتحمسون لحديث الذبابة هم أول من يبادر لغلق النوافذ وسكب الطعام والشراب الذي يحل عليه الذباب، لكن عندما يمارسون هواية التنظير فإنهم يمتحنون الناس في قراءتهم للسنة النبوية.

في هذا المقال سأحاول تناول قصة الذبابة المغموسة من جهتين اثنتين، أحدها من جهة فقه الحديث، والأُخرى من جهة العلم الحديث.

من الناحية التاريخية، يبدو أن هذا الحديث لم يُثر معركة فكرية كما أثارها في العصر الحديث، فنجد له ذكراً عابراً عند بعض القدماء مثل ابن قتيبة في كتابه "تأويل مختلف الحديث"، حيث جعل من يتساءل عن صحة هذا الحديث كمن ترك طريق الديانة ورجع إلى طريق الفلسفة، ودعم متن الحديث بالادعاء أن هناك من أكل الذباب ولم يصبه الرمد، وأنه إذا سُحق و خُلط بالأثمد زاد من نور البصر وشدّ من قوة شعر الأجفان، وأن الذباب يُعالج لسعة العقرب، كل ذلك في وقت لم يتوفر فيه المايكروسكوب، لذلك لم يستطع المعتزلة، الذين شككوا في متن هذا الحديث، أن يأتوا بدليل مجهري يدحض كلام ابن قتيبة وبعض الفقهاء الذين اصطفوا خلفه والذين صاروا فجأةً خبراء في علم حشرات.

كان دافع من لم يعمل بالحديث هو التقزز من غمس الذبابة التي يراها تنغمس في القاذورات والأوساخ، وكما يعترف شراح الحديث، فإن منشأ الذباب ومولده وظهوره هو في أماكن العفونة، فشُرب ماء سقط فيه مثل هذا الذباب قد يسبب أزمة نفسية لمن يُرغم نفسه على شربه، فمن يقبل في الظروف الطبيعية أن يشرب ماءً وقعت فيه ذبابة لا يعلم عن أصلها ومنبتها القذر شيئاً سوى أنها تطفلت عليه حينما ترك شرابه مكشوفاً؟ فضلاً عن أنه لا يوجد في هذا الحديث أمرٌ بشرب الماء الذي وقع فيه الذباب بعد غمسه، وعلماء الحديث يرون أن أمر الغمس الوارد في الحديث ليس على الوجوب بل على الإرشاد كما ينقل ابن حجر، والمُلفت أن بعض شراح الحديث لم يحتملوا العمل بظاهر الحديث، فحملوا هذا الحديث على المجاز، وجعلوا معنى الداء هو ما يعرض في نفس المرء من التكبر عن أكله ما يكون سبباً في إتلاف الطعام، والدواء هو ما يحصل من قمع النفس وحملها على التواضع.

كذلك لم ينظر من أخذ بظاهر الحديث إلى سياقه التاريخي، ففي ذلك الوقت كان الناس يعيشون في ضنك من العيش وضيق من الحال مع قلة طعام وندرة مياه، فربما كان هذا القول لرفع الحرج عن أكل وشرب ما يقع عليه الذباب.

في القرن العشرين كتب العالم السلفي المعروف محمد رشيد رضا في مجلة المنار "وحديث الذباب المذكور غريب عن الرأي وعن التشريع جميعاً، أما التشريع في مثل هذا فإن تعلق بالنفع والضرر فمن قواعد الشرع العامة أن كل ضار قطعاً فهو محرم قطعاً، وكل ضار ظناً فهو مكروه كراهة تحريمية أو تنزيهية على الأقل إن كان الظن ضعيفاً، فغمس الذباب في المائع الذي يقع فيه لا يتفق مع قاعدة تحريم الضار، ولا مع قاعدة اجتناب النجاسة... وإننا لم نر أحداً من المسلمين ولم نقرأ عن أحد منهم العمل بهذا الحديث، فالظاهر أنهم عدوه مما لا دخل له في التشريع كغيره من الأحاديث المتعلقة بالمعالجات الطبية والأدوية"، ينقل ابن حجر في شرح البخاري قول ابن عمر أن عُمر الذباب أربعون ليلة وكله في النار إلا النحل، فلا نعلم أي حشرة يقصد الحديث في ظل وجود صحابة يعتبرون النحل من فصيلة الذباب.

في ضوء وجود أكثر من مئة وعشرين ألف نوع من أنواع الذباب لا يعلم أحدٌ الجناح الذي يحمل الداء ولا الجناح الذي يحمل الدواء، والمعروف حالياً أن الذباب يحمل قريباً من مئة جرثومة مثل السالمونيلا Salmonella، والستافكوكس Staphylococcus، وإيكولاي E. coli، والشيغيلا Shigella، وحسب منظمة الصحة العالمية، فإن ذباب المنازل بالذات ينقل الجراثيم عن طريق ملامسة طعام الناس، وقد تُسبب هذه الجراثيم حمى التيفود، والكوليرا، والتهاب الكبد،      والتهابات العيون،والإسهال، غيرها من الأمراض البكتيرية، وللوقاية من هذه الأمراض نصحت المنظمة بأربع استراتيجيات، ليس بينها غمس الذباب في الشرب والطعام، وهي القضاء على مواطن تكاثر الذباب، تقليل المصادر التي يتجمع حولها الذباب، منع الاتصال بين الذباب وبين الجراثيم المسببة للأمراض، وتغطية الطعام والأواني لمنع وقوع الذباب عليها.

علمياً، لا نستطيع الثقة كثيراً بنتائج الأبحاث في بعض الدول العربية التي تدعي وجود مضاد حيوي فعّال في أحد جناحي الذبابة، وذلك بسبب انحيازها الواضح لصالح اعتقادها المُسبق. وكم نتمنى لو تمكن المتحمسون لحديث الذباب من إنتاج مضادٍ حيوي واحدٍ من جناحها بدل نقل الأبحاث عمن لا يؤمن بحديث الذباب، فينقل البعض أبحاثاً تتحدث عن وجود مضاد حيوي في أجنحة بعض أنواع الذباب في أستراليا، والذي لا أظن أنه نفس الذباب الموجود في المدينة المنورة، وينقل الآخرون أبحاثاً حصلت في القرنين التاسع عشر والعشرين، والتي لا يمكن الأخرى التأكد من مصادرها وصحتها، بل ولا أظنها توصلت إلى كون جناح واحد من الذباب فقط هو من يحمل الدواء والآخر هو من يحمل الجراثيم، لكن لابد من القول إنه ليس من المستحيل أن يستخلص العلماء عقاراً من الذباب أو من أحد أجنحته، فعندئذٍ سنأخذ المضاد الحيوي في كبسولة ولن نغمس جناحه في زجاجة.