الشاعر الفلسطيني الراحل حسين البرغوثي (أرشيف)
الشاعر الفلسطيني الراحل حسين البرغوثي (أرشيف)
الخميس 22 مارس 2018 / 20:02

لا أستطيع الكتابة عن حسين البرغوثي

لم أستطع الكتابة عن حسين البرغوثي، في حياته كنت منشغلاً بحواراتنا ومشاريعنا التي لا تنتهي ولم تكتمل، وفي مرضه كنت منشغلاً عنه بقلقي وخوفي عليه، وفيما بعد إحساسي الذي لم يفارقني الى الآن بالخسارة

لا أدري كيف اهتدى حسين البرغوثي لذلك البيت في قرية أبو قش، شمال رام الله، بيت من الحجر غير المهذب بشرفة مزججة على الطراز الذي انتشر في منطقة القدس ورام الله في الستينيات من القرن الماضي، طابق واحد تصعد إليه عبر درب ضيق وطويل من الشارع الرئيسي الذي يخترق القرية، ويلتصق ظهره بالجبل حيث تطل صخور رمادية تتخللها تربة حمراء رطبة، وتصل الأعشاب ونباتات شوكية قصيرة وعقارب وكائنات الجبل إلى نوافذه الخلفية.

عندما وصلنا رام الله،  مروان جيلان وأنا، لم يكن جيش الاحتلال قد انسحب من المدينة بعد، وكانت حواجزه ودورياته لا تفارق شوارعها ومداخلها والقرى المحيطة بها، بينما تحتل قيادته مبنى "المقاطعة" الذي كان يضم سجناً وغرفاً للتحقيق، ولم تكن البطاقات الجديدة التي حصلنا عليها، "هوياتنا"، الصادرة من أريحا وغزة باللغتين العربية والعبرية، تخول لنا دخول المنطقة، وكان حصولنا المؤقت على ذلك البيت بمثابة هدية تسمح لنا بالاقتراب والتسلل إلى المدينة.

لم أسأل حسين كيف اهتدى للبيت، وكيف دفع الباب بثقة في تلك الليلة من خريف 1994. وقف في مدخل الشرفة الأمامية المزججة، الضوء القادم من إنارة الشارع تخلل شعره الطويل الأشقر وأعطاه لوناً ذهبياً مضاعفاً، للوهلة الأولى كانت ضجة سيارة الخنفساء الألمانية المتهالكة التي أنصتنا لها في الداخل بقلق، التي تشبه إلى حد بعيد ضجة سيارات دوريات حرس الحدود الاحتلالي، ووقوفها أمام المنزل، ثم انفتاح الباب وهيئة الشاب المتين الأشقر الذي ظهر دون مقدمات، كانت حركات متتابعة مثل جملة تواصل اكتمالها دون توقف، فيها من الحدس أكثر بكثير من المعرفة :

أبحث عن غسان زقطان، قال الشاب الذي يقف أمام الباب تحت ضوء الشارع الأصفر.

هكذا التقيت حسين برغوثي للمرة الأولى.

وهكذا انفتحت فجأة، مثل ضربة سعيدة من الحظ، صداقة عميقة مختلفة، تواصلت بحيوية حتى عشية رحيله في مايو (أيار) 2002،  قبل يومين من عيد ميلاده الثامن والأربعين.

بين تلك الليلة من خريف 1994 حين دفع حسين الباب الحديدي للمنزل في قرية أبوقش شمال رام الله، البيت الذي أعارنا إياه صديق إعلامي إلى حين ترتيب أمورنا، وليلة رحيله في غرفة مزدحمة ومضاءة في المشفى الذي قضى فيه أيامه الأخيرة خلال اجتياح الجيش الإسرائيلي للضفة الغربية واحتلال رام الله ربيع 2002، تنهض ثماني سنوات.

بين حركة يديه التي دفعت الباب في ذلك المنزل ويدي التي دفعت العربة التي وضعنا عليها جسده الهادئ في طريقنا عبر شارع ضيق معرض لطلقات القناص إلى ثلاجة الموتى في مشفى رام الله، تكمن تلك المصافحات والتلويحات والضحك وإشارات الإقناع والتوضيح، من تقييم شولخوف ودفعه نحو القرن التاسع عشر في روسيا، وتقريب شكسبير ودفعه نحو القرن الواحد والعشرين، المقارنة بين تسيلان ومحمود درويش، ودفع أميخاي خارج الحسابات وخارج المقارنة، كان جندياً في جيش احتلال، وتسكين بيالك في ثلاثينيات القرن، البحث عن ممرات بين كفافيس وغينسبرغ.

بين المصير الإنساني الممتلئ إلى حافته بالمرح والبهجة والموت والمغامرة والمرض والضعف لأنكيدو ومصير غلغامش المعزز برعاية الآلهة، أين تكمن مغامرة الآلهة وأية أسئلة تملكها، المغامرة والسؤال هي أمور بشرية خالصة.

لم أستطع الكتابة عن حسين البرغوثي، في حياته كنت منشغلاً بحواراتنا ومشاريعنا التي لا تنتهي ولم تكتمل، وفي مرضه كنت منشغلاً عنه بقلقي وخوفي عليه، وفيما بعد إحساسي الذي لم يفارقني الى الآن بالخسارة.

حتى تلك المقدمة القصيرة التي أنجزتها لكتابه الضوء الأزرق في طبعته الكبرى التي تجاوزت الثلاثة ملايين نسخة ضمن مشروع اليونسكو "كتاب في جريدة"، كانت أقرب إلى تأمل مؤلم وخاص في عشائه الذي لم يمسه ليلة رحيله.

لم ننه النص المسرحي مع فرنسوا أبو سالم الذي وضعنا له دراسات وبنينا حوله مكتبة ومراجع لإنجازه في قراءة مختلفة لملحمة غلغامش، الفصل الخاص من النسخة السومرية كان الأرضية التي سينطلق منها النص، كنا فرنسوا وأنا إلى جانبه في الأيام الأخيرة، كان يستيقظ بين غيبوبتين ليواصل الحديث حول النص بصفاء غريب، ونحن نصغي.

لم نتفق مع المنتج السينمائي الإيطالي الذي أراد أن ينتج فيلماً سينمائياً عن رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا"، حين اقترح اسماً ثالثاً لكاتب إسرائيلي، كان اللقاء مع المنتج والمخرج الإيطاليين في مطعم صغير في رام الله محبطاً تماماً، انتهت الفكرة بالنسبة لنا، حتى عندما عاد المنتج إلى رام الله بعد أيام وهو يحمل اسم "اسحق لاؤور" اليساري اليهودي المعادي للصهيونية حلاً وسطاً.

وبقيت فكرة أن يتحرك السيناريو عبر خطين متوازيين مصير غسان ومصير ديفيد مجرد أفكار صغيرة على ثلاث صفحات من دفتر ملاحظات أزرق، غادر السينمائيان المطعم الصغير وبقيت سيارة غسان الصغيرة واقفة أمام مبنى غامض في بيروت.

تذكر المشهد من جديد في أيامه الأخيرة بينما كنفاني يواصل السير نحو السيارة التي ستنفجر بعد قليل.

واصل الحديث حتى دخوله في غيبوبته الأخيرة عن قلقه من أن ثمة "ثرثرة" يمكن حذفها في الفصل الأخير من "سأكون بين اللوز".

المناوب أمام الثلاجات كان شاباً من الشمال، بدا مرهقاً في تلك الصبيحة المبكرة، استغرق وقتاً ليدرك وصول عربة "العمليات" التي استعرناها من المشفى المجاور، ويتبين الجسد المغطى بشراشف بيضاء انحسرت عنه في أكثر من مكان، كانت أصوات جنازير دبابات الميركافا الثقيلة تصل بوضوح وهي تذرع الشوارع حول دوار المياه المجاور للمشفى قبل أن تتفرق نحو أحياء المدينة.

خلفنا مباشرةً كان عمال يواصلون الحفر في حديقة تابعة للمشفى تحت أشجار سرو معمرة قبراً جماعياً لقتلى الأسبوع الماضي الذين تراكموا في الثلاجات.

بدا الأمر برمته مقحماً من كابوس وخارج المكان، بينما تتقاطع أصوات الحفر وهدير الدبابات وطلقات القنص، ومحاولة مناوب ثلاجات الموتى المرهق بلا أباليته الخاصة البحث عن مكان شاغر لميت جديد، ثم وبنفس الحياد بدأ يفرغ إحدى الثلاجات من أكياس خضار وخبز، يبدو أنه احتفظ بها هناك خلال الحصار، ليفسح مكاناً لحسين.

في اليوم التالي لزيارته في المنزل الحجري، أخذني بسيارته الغريبة عبر قرية برهام الى حرش جيبيا، لنشاهد القطعان الصغيرة للغزلان وهي تعبر بهيئاتها القلقة كروم الزيتون ومصاطب الزراعات الحقلية في منحدرات التلال.

لم تظهر الغزلان في ذلك اليوم ولا في الأيام التي تلته، وبدا عليه الحزن والإحساس بالخذلان، كان يأخذ الأمر على نحو شخصي تماماً.

فيما بعد، بعد سنوات، كنا نهبط من بير زيت نحو قرية جفنا لنشاهد تحضيرات مهرجان المشمش الخاص في هذه القرية المسيحية، كنا نتحدث عن ثعالب الجبال، عندما في أحد الانعطافات قفز من كرم زيتون على جانب الطريق غزال مكتمل، وقف في وسط الطريق ونظر نحونا طويلاً، كأنما ليؤكد حضوره ونفوذه الخاص في هذه التلال، ثم عاد من حيث أتى.

ركنا السيارة جانب الطريق وهبطنا في محاولة لتتبع أثر الغزال أو بقية القطيع في انحدار الكروم، ولكنه كان قد اختفى تماماً، بالنسبة لحسين أخذ الأمر منحىً سعيداً وبدا أن المشهد برمته قد تجمع من أجله.

كنت أفكر بكل هذا، وليس في جدل الكتب ومآثر الكتاب، في سعادته الخاصة وهويحدق في المنحدر بحثاً عن أثر الغزال الذي جاء من أجله ليحدق فيه مثل نبوءة، وأنا أتابع حارس ثلاجات الموتى في مستشفى رام الله وهو يوسع له مكاناً بين أكياس الخضار والخبز، بينما يواصل أحد تلاميذه لملمة الشرشف الأبيض حول جسده على العربة.

-------------------------
يُنشرهذا المقال ضمن ملف عن الراحل "حسين البرغوثي"، في العدد 14 من مجلة الدراسات الفلسطينية الذي يصدر هذا الأسبوع.