من الانتفاضة الفلسطينية.(أرشيف)
من الانتفاضة الفلسطينية.(أرشيف)
الإثنين 26 مارس 2018 / 20:32

ديناصوراتنا التي لا تنقرض

لم يعد هناك ثورة، ولعل صمود أهل القدس منفردين في هبة الدفاع عن الأقصى يؤكد أن مشروع الثورة بتعريفه التقليدي لم يعد فاعلاً، وكذلك الأمر فإن غزة حين تُضرب فإنها تتلقى الضربة وحدها

نعيش في مرحلة تحول تاريخي يعاد فيها تشكيل المنطقة وخلق واقع سياسي واجتماعي جديد له مواصفات خاصة تتجاوز القناعات التي كانت راسخة في العقود الماضية والخطاب الذي حفظناه عن ظهر قلب واجتررناه في كل لحظات عجزنا في سنوات الجمر والرماد العربي.

لكننا، ورغم دراماتيكية التحول، ما زلنا نحتفظ بخطابنا التقليدي، وما زلنا نرى انهيار الدول وتقسيمها وانبعاث الامبراطوريات التي اعتقدنا أنها بادت تماماً، ونراوح في الوقت ذاته بين الانحياز لخطاب المقاومة وعنفوانه اللفظي أو خطاب التسوية وعقلانيته الموهومة.

الشرق الأوسط كله يتغير، وما يجري في سوريا والعراق وليبيا يؤشر على انتهاء زمن عربي وبدء زمن جديد يراد له أن يكون مختلفاً حد الانقلاب على الذات، والقبول بخريطة سياسية جديدة تخلو من ذكر فلسطين. ومن لا يرى ذلك يعاني من غشاوة على العين وعلى العقل أيضا.

في هذه الأرض المشتعلة بالصراع بين الأجندات المتضادة، يعيد الكثيرون النظر في خطابهم التقليدي ويخرجون من عتمة الصناديق المحشوة بالمسلمات إلى فضاء البحث عن البدائل والخيارات المتاحة وتلك التي تجترحها القوى الحية في المجتمعات، وتجري عملية تحول تلقائي في التفكير وتغيير واضح في القناعات في أكثر من بؤرة صراع ومواجهة ومنها فلسطين التي راهن الكثيرون على تغييبها... وفشلوا.

في فلسطين يجاهر الناس الآن برفضهم للخطاب التقليدي البائس لمعسكري المقاومة غير المتحققة والتسوية غير الممكنة، وتظهر استطلاعات الرأي نتائج مبهرة للتحول في الرؤية الفلسطينية للصراع، حيث يجاهر ثلث الفلسطينيين تقريبا بتأييدهم لمشروع الدولة الواحدة ثنائية القومية، وقد أظهر آخر استطلاع للرأي تأييد ثمانية وعشرين بالمائة من المستطلعة آراؤهم لهذا الخيار بعد أن يئسوا من إمكانية تحقيق ما يسمى بحل الدولتين، وهو المشروع البائس الذي يمنح ثلاثة أرباع الأرض الفلسطينية للمحتلين الغرباء.

للوهلة الأولى لا تبدو هذه النسبة كبيرة أو مؤثرة، لكنها في الواقع نسبة ملفتة في مجتمع عاش عقوداً صعبة وطويلة من الصراع وخضع لمؤثرات الخطاب التقليدي للثوريين والتسوويين الذين تغير الزمن ولم يتغيروا. وهي نسبة عالية جداً في مجتمع كان إلى وقت قريب ينبذ طرح الدولة الواحدة ويعتبر من يدعو له خارجا عن الصف الوطني إن لم يكن خائنا ينبغي إعدامه.

الفلسطينيون يتغيرون، ويرون قضيتهم من زاوية مختلفة وبنظرة متحررة من محددات الخطاب التقليدي الذي تتبناه نخب تحولت رموزها إلى ديناصورات تقاوم الانقراض.

لم يعد هناك ثورة، ولعل صمود أهل القدس منفردين في هبة الدفاع عن الأقصى يؤكد أن مشروع الثورة بتعريفه التقليدي لم يعد فاعلاً، وكذلك الأمر فإن غزة حين تُضرب فإنها تتلقى الضربة وحدها، لأن الفصائل فقدت قدرتها بعد أن أضاعت بوصلتها في مرحلة المراوحة بين المقاومة وما يسمى سلاماً.

ولم تعد هناك تسوية لأن الحد الأدنى من الحق الفلسطينى مرفوض من الراعي المهيمن على مشروع الحل، ولأن الولايات المتحدة والمعسكر الغربي والعالم والقوى الفاعلة في الإقليم لا تريد أن ترى قيام دولة فلسطينية ولو كانت ضعيفة ومحاصرة.

أمام صعوبة استنهاض المقاومة واستحالة تحقيق التسوية على أساس حل الدولتين، يذهب الفلسطينيون إلى الخيار الأكثر واقعية، وهو خيار الدولة الواحدة الذي يبقي ستة عشر مليون فلسطيني على قيد الحياة السياسية ويحميهم من الشطب السياسي والمحو من التاريخ ويحول دون تحولهم إلى هنود حمر جدد.

لكن النخب البائسة ترفض هذا التحول وتصر على المضي في هذرها الشعاراتي وتقتات على خطاب يعتمد استذكار بطولات المقاومة وآخر يؤكد على فضائل السلام!

في زمن تصر فيه سلطة الضفة على المضي في التنسيق الأمني مع العدو وعلى المفاوضات خياراً وحيداً، وتعرض فيه سلطة غزة استعدادها للتفاوض مع العدو باعتباره تفاوضا شرعيا (تصريحات موسى أبو مرزوق) واستعدادها للعلاقة والحوار مع أمريكا ( تصريحات صلاح البردويل)، في هذا الزمن لا بد من تجاوز الديناصورات التي لا تنقرض، والولوج إلى مرحلة جديدة في النضال من أجل الحق في الحياة.