ازدحام في محطة للسكك الحديد في باريس (أرشيف)
ازدحام في محطة للسكك الحديد في باريس (أرشيف)
الأربعاء 4 أبريل 2018 / 20:42

سؤال فرنسا اليوم

حين انتُخب إيمانويل ماكرون رئيساً للجمهورية في أيار (مايو) الماضي، كان تعليق الكثيرين هو التالي: يبدو أن أكثرية الفرنسيين يحبون الوسط لكنهم لا يعرفون بالضبط ما هو الوسط، يحبون الوسط لأنهم سئموا اليمين واليسار ممثلين بالحزبين الديغولي والاشتراكي، لكنهم لا يعرفون ما هو الوسط لأن أفكاره وطروحاته لا تزال نُتفاً مبعثرة وغير متبلورة.

في انتظار النتائج، فإنّ سؤال فرنسا اليوم، وسؤال العهد الماكرونيّ خصوصاً، هو التالي: هل يمكن إنجاز الإصلاح من دون تكبّد الأكلاف اللاإنسانيّة التي عرفتها بريطانيا الثاتشريّة؟

هكذا بدا الغموض مفيداً في إطالة فترة السماح المعطاة لأصغر رؤساء فرنسا سناً. لكنْ يوم الثلاثاء الماضي بدأ الامتحان الذي تعارفت الصحافة الفرنسية على وصفه بـ "الثلاثاء الأسود". إنه إضراب عمال شركة السكك الحديد الذي قررته النقابات. السبب المباشر: تحويل الشركة المذكورة إلى شركة مساهمة وفتحها، ابتداءً بـ 2023، أمام المنافسة.

الإضراب سيمتد، حسب معظم الداعين إليه وليس كلهم، على ثلاثة أشهر، بمعدل يومي إضراب كل خمسة أيام، أو ما مجموعه 36 يوم إضراب. ما هو أهم من الأرقام يتعلق بموقع ذاك الإضراب من تطور فرنسا، الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ومن عهد ماكرون خصوصاً.

فالمعروف أن فرنسا، حيث التقليد الدولتي والرعائي متين، تخلفت كثيراً، اقتصادياً وتقنياً، عن جارتيها الألمانيّة والبريطانيّة. بيد أنها، وبسبب ذاك التقليد وضماناته، لم تعرف المآسي الإنسانية التي عرفتها بريطانيا في عهدها الثاتشري، حين كُسرت النقابات وانكمش الدعم الرسمي وانطلقت الخصخصة.

وثمة من يتهم ماكرون بأنه يكرر في فرنسا ما سبق لمارغريت ثاتشر أن فعلته في بلدها، بينما يركز "حزب الجمهورية إلى الأمام" الماكروني على أن هدف الإصلاحات هو التحديث بأقل أكلاف اجتماعية ممكنة.

دعاة الإضراب يشددون على البُعد الإنساني، ويعولون على مدّ الإضراب إلى قطاعات أخرى. وهذا الافتراض لا يُعدم أسبابه الوجيهة في ظلّ وضع اقتصادي سيئ: فقد انضم إلى المضربين عشرات آلاف الأساتذة والممرضين والممرضات، واليوم يطالب موظفو شركة "آير فرانس" مثلاً برفع أجورهم بنسبة 6 بالمئة، ويحتج الطلاّب على التشدد في الشروط الجديدة للانتساب إلى الجامعات.

وهكذا فاتساع الإضراب على مدى أشهر ثلاثة سيضمن انزياح القطاعات الأعرض من الرأي العام باتجاههم. وهم يذكرون بتقلص الشعبية السريع الذي بدأت تعانيه رئاسة ماكرون، لكنهم يذكّرون خصوصاً بتجربة مماثلة تعود إلى 1995، حين حاول رئيس الحكومة آلان جوبيه إطلاق برنامج إصلاحيّ اضطرته الحركة النقابيّة والشعبية إلى التراجع عنه.

لكنّ الحكومة تملك أيضاً رهاناتها: فهذا الإصلاح هو أصلاً جزء من البرنامج الذي انتُخب بموجبه ماكرون، كما أن خدمات النقل تردت كثيراً، وشركة سكك الحديد تئنّ اليوم تحت وطأة دَين يفوق الـ 46 بليون يورو، بينما باتت التحولات التقنية تتيح فرصاً غير مسبوقة أمام من يُسرحون من أعمالهم. يضاف إلى هذه الحجج أنه لا بد كي تتقدم فرنسا من كسر الابتزاز الذي تمارسه "ثقافة الإضرابات"، والنقابيون، على أية حال، لا يتجاوزون اليوم نسبة 11 في المئة من قوّة العمل، وهي أدنى نسبة في بلدان الاتّحاد الأوروبي. وبعد كل حساب، فحزب ماكرون يملك الأكثريّة البرلمانية، فيما لا تزال أحزاب المعارضة التقليدية تترنح تحت الضربة التي أنزلتها بها انتخابات حزيران (يونيو) الماضي.

وباختصار، وفي انتظار النتائج، فإن سؤال فرنسا اليوم، وسؤال العهد الماكروني خصوصاً، هو التالي: هل يمكن إنجاز الإصلاح من دون تكبد الأكلاف اللاإنسانيّة التي عرفتها بريطانيا الثاتشرية؟