السبت 7 أبريل 2018 / 20:05

الصمت كقوة هائلة في فلسفات شرق آسيا وأديانها

يعد الصمت مصدرا للقوة في فلسفة أهل الشرق الأقصى وحكمتهم، لاسيما من بين الناس في بلاد الصين والهند واليابان. ويتجلى هذا بالأساس في مذهب اللاشيء أو "الزن"، الذي يعود إلى الراهب دهيانا أو بوديدراما الذي ظهر في القرن السادس الميلادي، وهو يعني قيام الفرد بتصفية ذهنية من أي عوالق أو معارف مسبقة، حتى يتسنى له رؤية الشيء مجردا من أي حمولات قبلية، أو تشويش انفعالي، ويبدو فيها الصمت وسيلة معرفة الحقيقة، فقد كان راهبان يتجادلان طويلا، أيهما الذي يتحرك، الراية أم الهواء؟ فقال لهما المعلم: لا الراية ولا الهواء، ذهنكما هو الذي يتحرك.

ويمعن الكهنة البوذيون في الصمت للوصول إلى "النيرفانا" ويقيمون لهذا معتزلات للوصول إلى هذا المستوى الروحي العميق، لا يضنيهم في هذا كل ما حولهم من صخب وضجيج. وذات مرة شكا فيها راهب شاب إلى راهب عجوز من الضجيج الذي يقتحم الدير، فلا يمنحه فرصة للتأمل الصامت، فقال له: أيها المحترم، الضجة تقطع عليَّ تأملي، لا أستطيع التفكر والتأمل مع كل هذا الضجيج" فأجابه: "الضجة لا تزعجك، بل أنت الذي تزعج الضجة".

ومن المعروف أن التأمل هو أساس الممارسة البوذية، وقد علَّم بوذا أتباعه كيف يصمتون ويغرقون في تأمل عميق، وصار هذا تراثا شفهيا، ينتقل من شخص إلى آخر، عبر القرون. ويقوم التأمل على التركيز الكامل أو الهروب من الأفكار والنزوات التي تحتشد بها تجربتنا الحدسية، أو محاولة العيش في سلام، فنشاطنا الذهني المستمر تجعلنا نشعر بالسأم والضجر، فنحن ننشغل بالماضي والمستقبل، وننزعج لما سيحدث، ونشعر بالقلق والإحباط والانفعال والغضب والسخط والخوف.

وفي كتابه ''الصمت كرياضة روحية'' يطرح المفكر الهندي سوامي برامانندا الصمت على أنه وسيلة تحقق السلام مع النفس، وعلاج من صخب الحياة، وشتات الروح، وانشطار الجسد ، وهو لا يعني في نظره اعتزال الناس، وفقدان القدرة على الكلام، وتحرير عقولنا من التفكير وفرض حالة من الخواء الذهني والسلبية، إنما سكون العقل من القلق، والقلب من الهموم، والنفس من التوتر، والأعماق من الاضطراب، وهو يساعد على التآزر الجسدي والعقلي مع كل الملكات بحيث يصير كل جزء منها يؤدي وظيفته في انسجام تام مع كافة الأجزاء الأخرى، ويصبح تصرفنا الطبيعي عندما نستكين على شاطئ الحقيقة بعد أن نصل إليها مجهدين، وهنا يقول: ''النحلة، قبل أن تعثر على الزهرة وتتذوق الرحيق، تصدر طنيناً عالياً؛ لكنها في اللحظة التي تتذوقه، تصير مستغرقة، وتكف عن إصدار أي صوت. وهذا هو حالنا. قبل أن نجد الحقيقة، نجادل ونتعارك ونتحدى الآخرين الذين يختلفون معنا؛ لكنا، حين نتصل اتصالاً وثيقاً بما هو أعمق، نصمت ولا نحاول أن نفرض آراءنا على الآخرين. إننا نحاول أن نعيش تلك الحقيقة بحذافيرها؛ وعندما نحياها بالفعل، فإنها، تبلغ الآخرين وتؤثر في حياتهم".

ويرى برامانندا أننا لا يمكننا أن نصغي للغة الروح إذا ما كانت آذاننا مملوءة بضجيج العالم وصخبه، فالصمت يعمل لعقولنا وأرواحنا ما يفعله النوم لأجسادنا وجهازنا العصبي، والصمت يعيننا على اختزان كم هائل من طاقة الحياة التي نبددها في الثرثرات غير الضرورية، ولذا فإن معظم الذين يتحدثون كثيراً هم أولئك الذين يفكرون بوضوح أقل، كما أنهم أقل استجماعاً لقواهم الحقيقية، ولذا فإن أي شخص قادر على الإنتاج هو شخص يعطي الصمت، الملازم للصبر، قيمة في حياته. ولهذا يتغزل برامانندا في الصمت منشدا: ''ما أعذب صوت الصمت. ما أرق ملمسه. ما أطيب شذاه. وما أجمل هيئته. فلتهدأ قليلاً كيما تتمكن روحي من أن ترى، وتحس، وتسمع، وتلمس ذاتها في مملكة السلام المقدسة هذه''.

ويصبح الصمت جزءا أصيلا من التحلي بضبط النفس التي تنادي به "البوشيدو"، وهي الثقافة اليابانية التقليدية النابعة من قانون غير مدون كان يحكم حياة نبلاء اليابان وفرسانها (الساموراي) ويحدد سلوكهم، وساح في المجال الاجتماعي العام، وصار أشبه بحالة من الرواقية.

وتفرض هذه الثقافة أن يقابل الياباني الألم بصمت، ولا يبوح به، ضابطا مشاعره إلى أقصى حد لأن إظهار العواطف على ملامح الوجه من علامات انعدام الرجولة، وصاحب الشخصية القوية لا تبدو على وجهه أبدا بوادر الفرح أو الغضب، ولا تدفعه الحماسة إلى كثير الكلام مهما كان فصيحا، و"مبدأ التعبير الفصيح عن تجارب الروح وخفايا النفس والضمير أحد الوصايا .. فالاستماع إلى الكلمات والعبارات العظيمة يعد من أكثر التجارب الروحية والنفسية كتمانا وخفاء، ولذلك تتأذى أذن الياباني وهو يستمع إلى أمثال هذه الكلمات والعبارات، ويراها تتبدد وسط هرج المجموع وضوضائه .. لأن التعبير عن الأفكار والمشاعر الباطنية العميقة للإنسان بكلمات اللغة العادية يعد بالنسبة لنا دليلا حاسما على أن الأفكار ليست عميقة، وليست صادقة"، وذلك وفق ما يقوله إينازو نيتوبي في كتابه: "البوشيدو: المكونات التقليدية للثقافة اليابانية".

ولهذا كتب أحد فرسان الساموراي في مذكراته: "إذا أحسست بتربة نفسك تفور بالأفكار الدقيقة، فهو وقت خروج الثمار من البراعم، لا تشوش على نفسك، ولا تجعلها تضطرب بالضوضاء ، بل دعها تعمل وحدها في هدوء وإصرار".