من أعمال الفنان سيروان العراقي.(أرشيف)
من أعمال الفنان سيروان العراقي.(أرشيف)
الإثنين 9 أبريل 2018 / 19:36

كلبنة المعرض

قوة رسم سروان من قوة تعبيره، ليست قوته في رسم الكلب ولكن في اختراع الكلب واختراع لغة كلبية. إن العالم الذي يقوله أضرى من العالم الحيواني، إنه عالم "التبالع" البشري

يختار سروان العراقي الكردي أنموذج الكلب لمعرضه في صالة أجيال في بيروت. المعرض بكامله وفي لوحاته الكثيرة لا يفارق هذا الأنموذج. نحن أمام الكلب فيها جميعها، أمام الكلب حتى لتكاد الصالة بطابقيها تنبح وتعوي من احتدام الكلاب وانقضاضها بعضها على بعض. تذابح الكلاب هو الصورة الأبرز في هذا المعرض الذي تحوّل الى «مكلبة» هائجة يمعن فيها كلبان في تمزيق بعضهما، أو يدخل جمع من الكلاب في مجزرة ملتهبة.

 ليست كلمة ملتهبة استعارة فنحن نرى النار أو ما يوحي بالنار يتوقد على كامل اللوحة أحياناً. ما يخرج به المتفرّج هو أنّ القسوة قد تكون عنوان المعرض. ذكر لي سروان فعل «تكالب» وفتح لي هذا باب التفكير في أنّ كلاب سروان متكالبة. هذا التكالب بادٍ في أكثر من لوحة تصوّر الكلبين وقد انقضّا على بعضهما بحيث دخل كلّ منهما في الآخر ولم يبق أي فاصل بينهما، بل لم يبق لهما رأس بعدما ابتلع واحدهما الآخر حتى صار رأسه فيه وحتى غطى الابتلاع على رأسيهما فصار الكلبان الأحمر والأبيض، واحداً في خط منحنٍ يكاد يشكّل في ذلك ربع دائرة. هذا الإنحناء يجعل الإبتلاع لا يشمل الرأس فحسب بل يصل الى الأطراف، فإذا كان الابتلاع يغطي الرأس فإنه فضلاً عن ذلك يغطي الجسدين كليهما، فنحن عند هذه اللوحة أمام ابتلاع يشمل الكلبين المتنازعين ويغطيهما كليهما. فكلٌ، من الكلبين المتنازعين صار في جوف الآخر، وما بقي لنا لنراه هو صورة هذا الابتلاع الشامل الذي حوّل الجسدين «المبتلعين» الى خطّ منحنٍ. الفكرة هكذا عصية على التصديق، فالوحشان "المبتلعان" اللذان لم يبق منهما الا الذنب، طرفة يستهلك فيها الخيال نفسه وينقلب عليها. مع ذلك فهذه الطرفة في لوحة، وهي في اللوحة ليست طرفة بل عرض للتوحش في أقصاه. أي في أقصاه الذي يستحيل خيالاً. هنا الجسد المنحني هو ابتلاع جسدين امتلآ من بعضهما. هذا الخط المنحني هو الجسد الذي تكوّن من تراكب الجسدين "المبتلعين". ما نراه من قسوة هنا هو خيالها، إنه تقريباً ما بعدها، إنه القسوة خالصة من كل شيء حتى فعلها، إنه القسوة وحدها وقد صارت سطراً منحنياً، القسوة وقد تجاوزت نفسها، جسد القسوة وشكلها وعصبها. من هنا نفهم أكثر حين نرى دائرة من الكلاب المتبالعة، لقد محتها القسوة، أدخلتها في بعضها وأعطت هذا التبالع شكلاً دائرياً أقرب الى المطحنة، جسد المطحنة هنا هو القسوة وقد خرجت من نفسها وتجاوزتها وصارت شكلاً لها. إنه الكلبنة وقد طرحت كل شيء وطحنت كل شيء ولم يبق سواها ظاهراً. لا يرسم سروان مشهداً عنيفاً أو قاسياً، لا يتلهى بأفعال القسوة، إنه يرسم بهذا الجسد المنحني إيقاعها وتوترها ونهاياتها.

إذا وقفنا عند هذه الفكرة ننتبه الى أننا لا نرى الفكين يتهارشان، بل لا نرى الفكين بتاتاً، لا نرى الرأسين فقد دخلا في بعضهما ومحتهما القسوة، بل ننتبه الى أننا قلما نرى في لوحات سروان كلباً كاملاً. إننا نرى وثبة الكلب وأظلافه الطائرة، نراه وقد التقطت اللوحة حركته ونسيت تفاصيله، نراه أحياناً فكاً فحسب أي أننا لسنا أمام تفاصيل الكلب بل وثبته واندفاعه وشراسته ودمويته وأسنانه وأظلافه. أحياناً ندخل في "مكلبة" كاملة، في أطياف كلاب متراكبة متهارشة وهي تنخطف وسط أحمر أشبه باللهب المتأجج. مرة ثانية نقول إننا لا نرى كلاباً، رغم أننا في أكثر من لوحة نرى كلباً عجوزاً كاد يسقط على أسنانه أو نرى كلاباً طفلة توزعت على اللوحة شبيهة بالدمى. أي أننا لا نرى على نحو تفصيلي كلاباً متقاتلة بقدر ما نرى لا القتال ولكن ما بعده، إيقاعه والجسد الثالث الذي ينتج عنه. وحين نرى كلباً كاملاً نراه عجوزاً أو طفلاً أي أنه خارج الاحتدام والعنف. من هنا نفتش أحياناً عمّا تحت الكلب الذي نجده في العادة ممحوّاً أو جزئياً. الكلب هنا ليس قصص أطفال وليس قصص حيوانات وليس كلباً الا بمقدار ما يمكنه ألاّ يكونه. إنه مفردة بل هو أكثر من ذلك هو عبارة، مفردة الكلب تتكرر فيها. إننا أمام هيروغليفية الكلب، لغة تقوم على الكلب والكلب مفردتها الأساسية، بل يمكن أن نستنتج نصاً من هذه اللغة، نصاً مداره العنف والحرب، بل مداره "تبالع" الجماعات والطوائف والأعراق .أو ابتلاعها بعضاً لبعض.

يقول سروان أنه اختار ألوان لوحاته من بدلة عسكرية. قوة رسم سروان من قوة تعبيره، ليست قوته في رسم الكلب ولكن في اختراع الكلب واختراع لغة كلبية. إن العالم الذي يقوله أضرى من العالم الحيواني، إنه عالم "التبالع" البشري.