من مجزرة دوما.(أرشيف)
من مجزرة دوما.(أرشيف)
الثلاثاء 10 أبريل 2018 / 20:06

سارين الغوطة في البازار الروسي الأمريكي مجدداً

لو لم يكن السلاح المستخدم كيماوياً، لانتهى القول عند هذا الحد، وانتقلنا إلى مشاهدة أفلام نهب وتعفيش ما تبقى من بيوت مدن الغوطة، ومتابعة الجدل حول الانتصار والهزيمة، ومعنى المواطن والآخر في سوريا، بل وجدل تويتر بين ترامب ومواطنيه حول "واجب أمريكا في حماية المدنيين

الخلاف "التقني" بين روسيا وأمريكا مستمر حول حقيقة استخدام النظام الأسدي غاز السارين في الغوطة الشرقية منذ أغسطس (آب) 2013. ومن غير المتوقع أن يزول هذا الخلاف حتى هذه المرة، بعد قصف المدنيين في دوما بما يشبه غاز السارين.

لكن روسيا لم تخلط الحقائق هذه المرة، وتقول إن المعارضة هي من استخدمت الكيماوي لتوريط أمريكا في ضرب النظام السوري، بل نفت حقيقة استخدامه في الغوطة، على لسان وزير خارجيتها.

خبراء الأسلحة الكيماوية وجهوا استنتاجاتهم إلى استخدام مركب ثنائي من السارين وغاز آخر، بالاستناد إلى الصور وشهادات أطباء وناشطين، على اعتبار أن التحقيق متعذر في مثل هذه الظروف، مثلما كان متعذراً في سارين الغوطة الشرقية عام 2013، وفي خان شيخون قبل أكثر من عام بقليل.

في اعتداء السارين الأول، لم تكن روسيا قد تورطت عسكرياً في سوريا، مكتفية بالدعم السياسي، وتوريد السلاح للنظام كي يشتري الوقت في معركة يائسة بمقاييس تلك الفترة، حين كانت الخطوط الحمراء الأمريكية مشعة في بداية ولاية أوباما الرئاسية الثانية، وحين كانت فصائل المعارضة تسيطر على 70 في المئة من مساحة البلاد، وحين لم يكن داعش سوريا قد وُلد بعد. في تلك الأيام، استطاعت روسيا إنقاذ النظام، وأمريكا، معاً، برسم مسرحية "تجريد النظام من السلاح الكيماوي". أما اليوم، فلا يستبعد التحليل أن تكون روسيا نفسها متورطة في الأمر بشكل مباشر، على الأقل بتزويد النظام بالتركيبة الثنائية من السارين، إذا صح الاستنتاج المذكور لخبراء الكيماوي.

وفي مثل هذا الخرق للقانون الدولي، لا يعتمد تقييم خطورة الأمر على عدد الضحايا، بل على السابقة نفسها، إن كانت سابقة، حتى لو لم تسقط ضحية واحدة؛ وعلى الخطر الذي يمثله هذا الخرق على القوات الأمريكية، وقوات حلفائها، بمعنى أن رفض أمريكا وفرنسا لاستخدام قوات النظام الأسدي للسارين في الغوطة الشرقية لن يكون في جوهره تضامناً مع الضحايا المدنيين، بقدر ما هو خوف على قواتهما المنتشرة في شمال وشمال شرق سوريا. وإذا حدث مثل هذا الاحتمال البعيد، سيكون الفرق بين الحالتين أن الدولتين لن تستغرقا أكثر من ساعات حتى يأتي الرد الذي قد يتعدى مجرد الانتقام بضربة تكتيكية كما حدث في مطار الشعيرت قبل عام من الآن، بينما ستأخذان وقتاً طويلاً في المشاورات، والمداولات، وطلب تدخل مجلس الأمن الدولي، كما في حالة دوما، لأن روسيا تقف في منتصف الطريق ما بين أي إجراء منهما، وبين أماكن تواجد قوات النظام، والميليشيات الإيرانية، التي لا تخطو خطوة هذه الأيام إلا بأمر روسي.

وفي الأصل، تشير بروتوكولات الأمم المتحدة، ونظام مجلس الأمن الدولي، إلى هذه الفكرة، وهذا أقرب تفسير لامتلاك خمس دول فقط حق النقض، في استعمال للسلطة الأبوية بمعناها الشرقي المستمر، لتقرير ما يصلح وما لا يصلح للعالم، في غياب إرادة المتضررين، أو المستفيدين، من قرارات هذا المجلس.

في دوما، تباطأ "جيش الإسلام" في اتخاذ قرار الانسحاب، على خلفية ما قيل أنه انقسام في الفصيل المعارض الذي تباطأ النظام الأسدي في إخراجه من خاصرة دمشق لسنوات (؟). وفي التباطؤ الأخير، حاول صقور "الجيش" تمييز فصيلهم عن "النصرة"، و"أحرار الشام"، و"فيلق الرحمن"، الذين اتخذوا قرار الانسحاب للمحافظة على أرواح المدنيين وفق معطيات اختلال ميزان القوة المائل بشدة لصالح النظام وروسيا وحلفائهما. هنا، يبرز السؤال حول مصير مخازن السلاح التي كان "الجيش" يكدسها منذ سنوات، والأنفاق التي حفرها استعداداً لمعركة فاصلة. كما يبرز سؤال عن توقيت استخدام النظام للسلاح الكيماوي، وعن معنى استخدامه التركيبة الثنائية من غاز السارين، وهل هي لتخفيف آثار السارين، أم لخلط الأوراق، والإكثار من الأسئلة حول طبيعة السلاح المستخدم، أو لإيصال رسالة لـ"الجيش" بعدم جدوى المقاومة في وسط المدنيين، ما يعني حسم الجدل الداخلي بين الصقور والحمائم لمصلحة عدم تحمل وزر موت المدنيين، والمكابرة بالاستمرار في رفع شعار "القتال حتى آخر طلقة".

من المؤكد أن روسيا تمتلك كامل الحقيقة حيال من استخدم هذا السلاح، وعن طبيعة المادة الكيماوية، وعن الهدف من استخدامها. وفي النتيجة، نجحت في تمرير غايتها، وبعد ساعات ستخلو دوما من آخر فصيل مسلح معارض، بعد إحراق الأرض والسماء في الغوطة الشرقية.

ولو لم يكن السلاح المستخدم كيماوياً، لانتهى القول عند هذا الحد، وانتقلنا إلى مشاهدة أفلام نهب وتعفيش ما تبقى من بيوت مدن الغوطة، ومتابعة الجدل حول الانتصار والهزيمة، ومعنى المواطن والآخر في سوريا، بل وجدل تويتر بين ترامب ومواطنيه حول "واجب أمريكا في حماية المدنيين، والقانون الدولي"، باعتبارها شرطي العالم الأوحد.

هنالك منطق ما يشير إلى أن أمريكا ستوجه ضربة عسكرية ما لقوات النظام الأسدي، لكن المنطق نفسه لا يُغفل أن مثل هذه الضربة لن تُحزن روسيا والنظام الأسدي وحلفائهما، كما لن يفرح فيها مؤيدو الثورة، كون سوريا ذهبت مبكراً نحو فترة سبات طويلة سيراجع فيها السوريون شعارهم الجميل "الشعب السوري واحد"، البديل من أسطورة "الفسيفساء السورية"، التي فعلت فعلاً مماثلاً باللبنانيين من قبل، ومن ثم بالعراقيين.