الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين.(أرشيف)
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين.(أرشيف)
الأحد 15 أبريل 2018 / 19:47

مجرّد مربّع على رقعة شطرنج كبيرة

الضربات الجوية الأمريكية، وقبلها الإسرائيلية، قد تكون اختباراً لمدى التزام الروس بالدفاع عن نظام آل الأسد من ناحية، واختباراً لقدراتهم العسكرية، وأسلحتهم المتطوّرة في سورية، من ناحية ثانية

في الحرب، أيضاً، كما في الملاكمة، البعض يربح بالضربة القاضية، والبعض الآخر بالنقاط. وإذا كان من الممكن اختزال استراتيجية اللاعبين في الملاكمة إما في مباغتة الخصم، أو استنزاف قواه، فإن استراتيجية المتحاربين، وإن خضعت للمنطق نفسه، مرشحة دائماً للتأقلم مع متغيّرات جديدة، في الميدان وخارجه، نتيجة تحوّلات مفاجئة، أو حسابات خاطئة.

وليس من قبيل المجازفة، بهذا المعنى، القول إن القانون السائد للحرب في سورية وعليها، على مدار السنوات السبع الماضية، كان محكوماً بمنطق الفوز بالنقاط، نتيجة عجز كافة اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين عن الفوز بالضربة القاضية. وإذا كان العجز قد نجم عن تعدد اللاعبين، وتضارب المصالح، فإن تداعيات مباشرة، وبعيدة المدى، للعجز تسببت في تعديل الاستراتيجيات، وأفقدت بعض القوى، في حالات بعينها، وضوح الرؤية والهدف.

وإذا كان ثمة من ضرورة لتعيين لحظة حاسمة تبدّلت فيها المصائر والاستراتيجيات فيمكن اختزالها في نزول الروس عسكرياً على الأرض في سورية. فمع نزولهم لم يعد مصير النظام مُعلقاً في الهواء، كما كان من قبل، ولم تعد الحرب في سورية وثيقة الصلة بسورية والسوريين، كما كانت في بدايتها، بل أصبح الصراع فيها وعليها جزءاً من حرب باردة تجددت في مسرح للعمليات يغطي مساحة أوروبا والشرق الأوسط.

والواقع أن الهجمة الصاروخية الأمريكية، والبريطانية، والفرنسية، فجر يوم امس (السبت) على ثلاث منشآت لنظام آل الأسد في دمشق وضواحيها تبدو وسيلة إيضاح مثالية في هذا الصدد. فمن المُستبعد أن يُقدم الأمريكيون على تصعيد كهذا دون أقصى قدر من الحرص على تفادي الاشتباك مع الروس، كأن يصيبوا أهدافاً عسكرية روسية سواء عن طريق الخطأ، أو نتيجة تصميم مُسبق. ومن المُستبعد، أيضاً، ألا يكون الروس قد مارسوا قدراً موازياً من الحرص على تفادي الاشتباك مع الأمريكيين، كأن يضربوا عن طريق الخطأ، أو نتيجة تصميم مُسبق أهدافاً عسكرية أمريكية.

ولا ينبغي، في هذا السياق، تجاهل إشارة بعض الناطقين الروس يوم أمس (السبت) إلى أن صواريخ الدفاعات الجوية السورية التي اعترضت الصواريخ الأمريكية، والبريطانية، والفرنسية، تعود إلى زمن الحقبة السوفياتية. فهم يريدون القول إن منظومات دفاعاتهم الجوية الخاصة على الأراضي السورية لم تعترض الصواريخ المُهاجمة من ناحية، وأن ما في ترسانة النظام الأسدي من أسلحة تعود إلى الحقبة السوفياتية، تم تحديثها مؤخراً، يدل على نجاعة السلاح والتكنولوجيا الروسية من ناحية ثانية.

ومنشأ الحرص على تفادي الاشتباك بين الروس والأمريكيين، على الرغم من وجودهم على طرفي نقيض في سورية، أن اشتباك الطرفين قد يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة لا تنحصر في سورية أو الشرق الأوسط. لذا، ومع كل العنف اللفظي ضد رأس النظام السوري، ومع الإدانة السياسية، والتهديد بالعقاب من جانب الأمريكيين وحلفائهم الغربيين، إلا أن الضربة الأمريكية، البريطانية، الفرنسية، تظل محدودة، ومشروطة باستخدام نظام آل الأسد للأسلحة الكيماوية، بمعنى إمكانية التغاضي عن كل ما هو دون السلاح الكيماوي في ترسانة النظام العسكرية.

وهذا، في الواقع، ما ترددت أصداؤه في تعليقات المحللين، وحتى بعض كبار مستشاري الإدارة الأمريكية، على الهجمة الصاروخية الأخيرة. فالقيام بضربات كهذه من وقت إلى آخر، وفي ظل غياب استراتيجية سياسية، أو خطة عسكرية واضحة، لا يهدد وجود نظام آل الأسد، ولا يحد من قدرته على الاستمرار في استخدام أسلحة تقليدية كالطائرات والدبابات والصواريخ، ولا يوفر حماية حقيقية للمدنيين في سورية. ولا يغيّر كثيراً من موازين القوى الفعلية على الأرض.

ومع كل هذا في الذهن، يمثل الصراع في سورية وعليها جزءاً من رقعة شطرنج أكبر تغطي مساحات شاسعة من العالم، ويضم خليطاً متنافراً من كبار وصغار اللاعبين. فالضربات الجوية الأمريكية، وقبلها الإسرائيلية، قد تكون اختباراً لمدى التزام الروس بالدفاع عن نظام آل الأسد من ناحية، واختباراً لقدراتهم العسكرية، وأسلحتهم المتطوّرة في سورية، من ناحية ثانية.

فإذا قرر الروس التصعيد، مثلاً، هذا لا يعني أنهم يحتاجون، بالضرورة، للاشتباك المباشر مع الأميركيين، بل يعني إمكانية تزويد نظام آل الأسد بمنظومات الدفاع الجوي الحديثة، وتكنولوجيا متطوّرة، وهذا من شأنه الحد من قدرة الأميركيين والإسرائيليين على تسديد ضربات جوية.
وهناك، بالفعل، بين كبار صنّاع الاستراتيجية العسكرية من الجنرالات الأميركيين، من يعتقد أن الرد الروسي على التصعيد في سورية قد لا يتجلى بالضرورة هناك، بل في أماكن بعيدة من نوع دول البلطيق، التي تمدد فيها حلف الناتو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. فمصير سورية لا يعني الروس، إلا بوصفه جزءاً من استراتيجية أكبر. وهذا يصدق، أيضاً، على بقية اللاعبين.

أخيراً، الضربة الأميركية الأخيرة تندرج في باب التصعيد، صحيح، ولكنه يبقى تصعيداً محسوباً، ولا يغيّر الكثير من واقع ووقائع أيام سبقته، وإن كان ثمة من تداعيات مباشرة فهي تتعلّق، في المقام الأوّل، بردود الفعل المحتملة للروس والإيرانيين (الذين سقط بعض مستشاريهم في غارة إسرائيلية قبل أيام). وفي مشهد كهذا لا يبدو نظام آل الأسد أكثر من بيدق، ولا تبدو سورية أكثر من مربع على رقعة شطرنج كبيرة، ولا يبدو أن أحداً من كبار اللاعبين يرى، أو يملك، خارطة طريق آمنة تُبرر الكلام عن ضوء في آخر النفق.