ثلاثة وجوه من قبائل الزولو في جنوب أفريقيا (أرشيف)
ثلاثة وجوه من قبائل الزولو في جنوب أفريقيا (أرشيف)
الأربعاء 18 أبريل 2018 / 20:41

المرآة

كتب جيمس فريزر (1854- 1941) في كتابه الشهير "الغصن الذهبي"، عدة صفحات عن الروح بوصفها ظلاً وانعكاساً وخيالاً، وهو يشير إلى اعتقاد عند بعض الشعوب، مؤداه أن روح الإنسان توجد خارجه في ظله الممتد على سطح الأرض، أو خياله المنعكس على صفحة الماء، تلك المرآة الطبيعية التي لم تتدخل فيها يد إنسان. ففي نظر هذه الشعوب، أن ظل الإنسان، أو خياله إنما هو امتداد له، وجزء حي منه، لدرجة أنه إذا تعرَّض الظل أو الخيال للخطر، تعرَّض أيضاً، وعلى الفور الإنسان نفسه، أو جسده للخطر. لذلك نرى مُحاربي قبائل Zulu الأفريقية، يتجنبون النظر إلى أية بحيرة أثناء الليل، لاعتقادهم بوجود حيوانات غامضة في البحيرة، تستطيع سلب خيالاتهم، أي أرواحهم، فيموتون في التو واللحظة.

كما تذهب قبائل البازوتوBasuto في جنوب أفريقيا إلى أن للتماسيح قدرة على قتل أي إنسان عن طريق جذب خياله تحت الماء، ولو أن واحداً منهم مات فجأة، ودون سبب واضح، ادعى أقرباؤه أن تمساحاً قد هجم على ظله أثناء عبوره أحد الأنهار. ويأتي أيضاً رافد القرين، ليصب في نفس الاعتقاد بالظل وانعكاسه، حيث يولد الإنسان بقرينه، ويُصاحبه أينما ذهب، أو يختفي جاعلاً الإنسان مشطوراً إلى نصفين، وتكون هناك رحلة بحث عن النصف الآخر. القرين موضوع شائع في الأدب، فرواية دوستويفسكي الثانية المخيفة "المثل"، التي كتبها في عام 1845، تقوم على مُطارَدَة القرين للبطل غوليادكين.

وسواء في الشرق أو الغرب، ما زال تيار الفولكلور الشعبي سارياً. شاع في الهند واليونان القديمتين، أمثال سائرة تُحذِّر من النظر إلى الخيال في الماء، أو النظر في مرآة أثناء ظلمة الليل. لم يستنزف أحد في الأدب الحديث، أكثر من الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، استعارات المرآة ومعانيها ومُفارَقَاتها.

التفسير الأنثروبولوجي لاستعارات المرآة عند الإنسان البدائي، أنه لم يكن وصل بعد إلى مرحلة الوعي بالذات، فهو لا يجد نفسه صاحب هوية مستقلة، أو شخصية فردية، تتميز عن الوسط الذي تعيش فيه. يندمج الإنسان البدائي بجسمه، ويتوحد مع الطبيعة من حوله. إن فكرة الجسم من حيث هو مقابل للروح، ومختلف عنها، هي ذاتها فكرة تستعصي على فهم الإنسان البدائي كما يقول عالِم الأنثروبولوجيا موريس لينهارت الذي يحكي عن عجوز بدائي، حكيم للمُفَارَقَة، سأله واحد من الاستعماريين الإداريين الإنجليز، عن الاكتشاف العظيم الذي ينبغي أن يُنْسَب في نظره إلى الحضارة الغربية، فقال العجوز البدائي الحكيم: إنه الجسم، هذا هو ما أحضرتموه معكم إلينا. الجسم كما يعرفه العجوز، كان ممتداً في الطبيعة، منسجماً معها، أمّا فكرة الجسم الغربي، فهي تقيم تعزيلات عقلية أساسية، بين الأصل والصورة، بين الإنسان وظله، بين المرآة ومَنْ يقف أمامها.

الوصول إلى الوعي بالذات الذي كان مفقوداً عند الإنسان البدائي، هو وصول لمحطة هيغل الفلسفية، إن الإنسان البدائي، وبشيء من التجاوز، هو بمثابة التعبير التاريخي لما أطلق عليه هيغل في مقدمة كتابه "ظاهريات الروح"، اسم "الوعي الطبيعي"، وهو أول لحظة من لحظات الوعي في رحلة ترقَّي الإنسان نحو المعرفة الفلسفية، وهي أقصى معرفة يصل إليها الوعي الإنساني عند هيغل. الوعي الطبيعي كما يقول هيبوليت أشهر شُرَّاح هيغل، وعي يرى، لكنه لا يرى نفسه، وعي يعرف، لكنه لا يعرف أنه يعرف.

معرفة وجهل في آن واحد. على سبيل المثال قول العجوز البدائي الحكيم للمستعمر الإداري الإنجليزي: الجسم هو ما أحضرتموه معكم إلينا. العبارة هي خليط من المعرفة والجهل، هي عبارة قد تبدو مثيرة أكثر من كلمات هيغل نفسه أو شارحه هيبوليت، من وجهة نظر الآداب والفنون.

أما الوعي الذي يعرف موضوعاته، ويعرف نفسه فيها، يسميه هيغل باسم "الوعي بالذات"، أو الوعي الذاتي، وهو في جوهره رغبة لا تحقق لنفسها الإشباع التام إلا إذا واجهتْ موضوعاً تتعرف فيه على نفسها من ناحية، ومن ناحية أخرى يُقر الموضوع المُوَاجَه، ويعترف بها. ولا يمكن أن يكون هذا الموضوع إلا ذاتاً أخرى، أو وعياً ذاتياً آخر، لأن رغبة الوعي الذاتي تتجاوز مجرد البقاء والحياة، أي أنها تتعدى المستوى الطبيعي والحيواني إلى المستوى الإنساني والاجتماعي، حيث يتعين على كل وعي ذاتي أن ينتزع إقراراً، أو اعترافاً من وعي ذاتي آخر.