فلسطينيون يتظاهرون قبالة مستوطنين إسرائيليين في الضفة الغربية.(أرشيف)
فلسطينيون يتظاهرون قبالة مستوطنين إسرائيليين في الضفة الغربية.(أرشيف)
الأحد 22 أبريل 2018 / 20:11

مَنْ استقل عن مَنْ؟

جرت محاولات "بحثية" صهيونية لتصوير الفلسطينيين بالغزاة، فهؤلاء في نظرها جاءوا إلى فلسطين في القرن التاسع عشر من بلاد عربية مجاورة، وكانت فلسطين شبه خالية من السكّان، وبالتالي كانوا مستوطنين أجانب، ويصعب وصفهم بالسكّان الأصليين

يحتفل الإسرائيليون، هذه الأيام، بالذكرى السبعين لإنشاء دولتهم، ويُسمى إحياء الذكرى "عيد الاستقلال". وتُعتبر هذه المناسبة من أهم المكونّات الرئيسة للديانة المدنية في الدولة الإسرائيلية. وفي سياق كهذا ثمة ما يُبرر التساؤل: استقلال مَنْ عن مَنْ؟ فالاستقلال، بالمعنى العام للكلمة، يعني حصول جماعة قومية على الحق في تقرير المصير، بعد التخلّص من حكم أجنبي. وقد اكتسب هذا الحق دلالات سياسية وقانونية وثقافية في القرن العشرين، مع صعود حركات التحرر القومي في المستعمرات.

وعلى خلفية كهذه ثمة ما يبرر التساؤل: إذا افترضنا جدلاً أن إنشاء الدولة الإسرائيلية كان ممارسة لحق تقرير المصير، فمَنْ هو الطرف الذي انتزع منه الإسرائيليون هذا الحق؟ هل هو سلطة الانتداب البريطاني، أم انتزعوه من الفلسطينيين؟

إذا كان الجواب: الانتداب البريطاني على اعتبار أن بريطانيا كانت القوّة الكولونيالية المهيمنة على فلسطين، بعد انتزاعها من الأتراك، فهل ثمة ما يدعم جواباً كهذا إذا وضعنا في الاعتبار أن القوّة الكولونيالية هي نفسها التي اعترفت لليهود بالحق في إنشاء "وطن قومي" في فلسطين، كما جاء في وعد بلفور، وأن القوّة الكولونيالية نفسها هي التي سهّلت هجرة اليهود من أوروبا الشرقية والوسطى إلى فلسطين، وهي التي حمت، ودعمت، وشجّعت، وجود اليهود في ذلك الجزء من العالم؟

وإذا كان الجواب: انتزعوه من الفلسطينيين، فهذا يعني أن الفلسطينيين كانوا هم القوّة الكولونيالية صاحبة اليد العليا في فلسطين، وأن وجودهم بهذه الصفة، وإنكارهم لحق اليهود في الاستقلال، يبرر الصراع معهم، ويضفي عليه صفة الكفاح من أجل الاستقلال وتحقيق المصير.

ولكن هل يستقيم هذا الجواب مع حقائق من نوع أن الفلسطينيين كانوا يمثلون السكّان الأصليين، وأن عدد السكّان اليهود عشيّة إعلان الدولة كان أقل من نصف عدد الفلسطينيين، وأن الغالبية العظمى من السكّان اليهود كانوا مهاجرين أجانب، ولم يكن قد مر وقت طويل على وجودهم في البلاد؟
وعلاوة على هذا وذاك، كيف يستقيم جواب كهذا مع حقيقة أن الفلسطينيين كانوا محرومين من الحق في السيادة، أي لم تكن لديهم أدوات القوّة الكافية لتمكينهم من سن القوانين، ووضع السياسات الكفيلة بحرمان السكّان اليهود من ممارسة الحق في تقرير المصير؟ وما معنى أن تحرر الأقلية نفسها من الأغلبية؟ وما معنى أن يحرر الأجنبي نفسه من أبناء البلد الأصليين؟

والواقع أن هذه الأسئلة والتساؤلات كانت مصدر قلق دائم في السردية التاريخية لنشوء الدولة الإسرائيلية. ففي بيان الاستقلال إشارة إلى عودة اليهودي لممارسة الحق في تقرير المصير بعد انقطاع بلغ ألفين من السنوات. بمعنى أن هذا التفسير يقفز فوق ألفي عام ويستبعد مجرّد التفكير في سؤال من نوع: ممن أُنتزع الحق في تقرير المصير؟

وبما أن تفسيراً كهذا يخلق تعقيدات كثيرة في لغة وعلوم السياسة، والقانون الدولي، فقد نشأت ضرورة لتحويل صراع طرف من الحركة الصهيونية ضد سلط الانتداب البريطاني إلى ما يشبه حرباً من أجل الاستقلال، وهذا كان يستدعي بالضرورة إغفال وجود علاقة ودية تماماً، وتنسيق دائم، بين الجناح المهيمن في الحركة الصهيونية وسلطة الانتداب.

وبالقدر نفسه، جرت محاولات "بحثية" صهيونية لتصوير الفلسطينيين بالغزاة، فهؤلاء في نظرها جاءوا إلى فلسطين في القرن التاسع عشر من بلاد عربية مجاورة، وكانت فلسطين شبه خالية من السكّان، وبالتالي كانوا مستوطنين أجانب، ويصعب وصفهم بالسكّان الأصليين. واللافت أن هذه الفرضية، التي تم تفنيدها حتى من جانب بعض المؤرخين الإسرائيليين، عادت للظهور مجدداً مع صعود معسكر اليمين القومي ـ الديني في إسرائيل. ولأمر كهذا دلالات بالغة الخطورة.

على أي حال، لم يخفت تأثير ما ذكرنا من أسئلة وتساؤلات بشأن "مَنْ استقل عن مَنْ؟" و "مَنْ تحرر عن مَنْ؟" على مدار سبعة عقود مضت، وثمة ما لا يحصى من الشواهد، ويصعب التفكير في احتمال زوالها في وقت قريب. والأهم من هذا وذاك، أن العثور على إجابات جديدة غير تقليدية قد يفتح أفقاً للحل التفاوضي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ويضع الطرفين على سكّة السلام.