المفكر المصري عبد الرحمن الجبرتي.(أرشيف)
المفكر المصري عبد الرحمن الجبرتي.(أرشيف)
الأربعاء 25 أبريل 2018 / 20:01

تاريخ الجبرتي

الحكم الفرنسي رغم شروره، كان يراه الجبرتي في كثير من وجوهه، أفضل للمصريين من الحكم المملوكي، ومن الإرهاب التركي، وقد نص على هذا صراحةً في مواضع قليلة، لكنه أوحى بها ضمناً في المقارنات التي ساقها

يذكر لويس عوض في كتابه "تاريخ الفكر المصري الحديث"، أن عبد الرحمن الجبرتي (1753- 1822)، هناك خلاف حول سنتين أو ثلاثة بالزيادة أو النقصان في تاريخ مولده ووفاته. صاحب كتاب "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، هو أول مفكر في مصر الحديثة، نستطيع أن نستخلص من كتابته، موقفه من حضارة الغرب، ومن الفلسفات السياسية والاجتماعية التي كانت تتصارع في عصره، سيما وأنه شاهدها مُعلنةً في بيانات الحملة الفرنسية، أو مُطبقةً في التنظيمات السياسية والاجتماعية التي استحدثتها الحملة. استقبل الجبرتي الحملة الفرنسية بالكلمات الآتية سنة 1798: وهي أول سني الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور، وترادف الأمور، وتوالي المحن، واختلال الزمن، وانعكاس المطبوع، وانقلاب الموضوع، وتتابع الأهوال، واختلاف الأحوال، وفساد التدبير، وحصول التدمير، وعموم الخراب، وتواتر الأسباب، وما كان ربك مُهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون.

يرى لويس عوض مقصدين من كلمات الجبرتي الأخيرة. المقصد الأول، أن مصر كانت تستحق ما نزل بها من محنة الغزو الأجنبي، لكن من الصعب الحكم إن كان الجبرتي يقصد بكلماته، فساد المجتمع المصري قبل الحملة الفرنسية، وإلى ما أشاعه الأتراك والمماليك، خصوصاً في عهد مراد بك وإبراهيم بك، من طغيان وظلم، وسلب ونهب، واستباحة لأرواح البشر وكرامتهم، وهذا قد يجعل حكم الفرنسيين في نظر الجبرتي، أقل ظلماً وأقرب إلى فكرة العدالة. المقصد الثاني، أن يكون كلامه شاهداً على سقوط الامبراطورية التركية المملوكية، معبراً عن فلسفة في التاريخ مُشابهة لفلسفة المؤرخ أوروسيوس الذي نعى سقوط الامبراطورية الرومانية من قبل.

الحكم الفرنسي رغم شروره، كان يراه الجبرتي في كثير من وجوهه، أفضل للمصريين من الحكم المملوكي، ومن الإرهاب التركي، وقد نص على هذا صراحةً في مواضع قليلة، لكنه أوحى بها ضمناً في المقارنات التي ساقها. وبوجه عام كان الجبرتي يكره الثورات التي تحكمها الغوغاء، والمهيجون المحترفون، وتشيع فيها أعمال العنف، وسفك الدماء، حتى لو كانت باسم الوطنية والجهاد الديني. وكما كان يقظاً إلى أعمال الإرهاب والاستغلال التي قام بها الفرنسيون، كان أيضاً يقظاً في اجتهادهم لإقامة العدالة تشريعاً وتنفيذاً، بطريقة لم يألفها المجتمع المصري في عهد المماليك.

أمّا بالنسبة لرأي الجبرتي في المفاضلة بين الطبقات الحاكمة في البلاد، فهو يذكر أن السناجق أي حكام الأقاليم الذين انتقلوا من خدمة المماليك إلى خدمة الفرنسيين، كانوا أشد ظلماً من سادتهم الجدد، فبعد ثورة طنطا والمحلة الكبرى، وفرض الغرامات على أهلها، يحدثنا الجبرتي عن تعنت وتسلط السناجق الذين هم أقبح في الظلم من الفرنسيين.

أمّا عن الوجه الآخر للصورة، وهو سلوك الفرنسيين السياسي والإداري، فالجبرتي ينص بوضوح على أنهما كانا ذا طابعين، طابع الإرهاب والتنكيل كلما شبت ثورة أو اضطراب، وطابع العدالة وسيادة القانون، وهذا يسود في فترات الاستقرار السياسي. كان الجبرتي يعقد مقارنات ضمنية بين هذا الأسلوب في الحكم، وبين ما ألفه المصريون تحت الحكم التركي المملوكي الغاشم الذي لم تتسرب إليه فكرة القانون. ومن الأمثلة التي لفتت نظر الجبرتي، أن الفرنسيين لم يعملوا بنظام السخرة الذي كان شائعاً في العهد التركي المملوكي. ففي قيامهم بإقامة مُنشآتهم يذكر الجبرتي نموذجاً لذلك، وهو بناء الطريق الكبير المحفوف بالأشجار، بحيث صار طريقاً ممتداً من الأزبكية إلى جهة قبة النصر.

يلاحظ الجبرتي أن كثيراً من القوانين التي أصدرها الفرنسيون في مصر لم تكن مجرد قوانين طوارئ، بل كانت قوانين معمولاً بها في فرنسا ذاتها، ومنها هذا القانون الخاص بتسجيل نزلاء الفنادق والبنسيونات، والإخطار عنهم، وقوانين الشهر العقاري، وتسجيل المواليد والوفيات، وعقود الزواج، ودفن الموتى خارج المدينة، وإضاءة المصابيح والدكاكين، وأهم من هذا كله، مبدأ نشر القوانين والأحكام، كشرط لنفاذها، باستعمال الملصقات في الميادين، وعلى رؤوس الشوارع والحواري، لعدم وجود جريدة رسمية وقتئذ، وكبديل لنظام المنادي الذي لم تكن العصور الوسطى تعرف سواه.

أدخل نابليون في مصر الديوان العمومي، المكون من ستين عضواً، وهو أول مجلس نيابي عرفته مصر في العصر الحديث، والديوان الخصوصي المُختار من بين أعضائه، والمكون من أربعة عشر عضواً، وهو أول مجلس وزراء عرفته مصر. وكانت طريقة عمل الدواوين واختصاصاتها، موضوعة أمام الشعب، وأمام القائد العام الفرنسي. أمّا موقف الشعب المصري من الحكم النيابي، فقد بيَّن الجبرتي فرحة الشعب المصري به، بما يدل على أنه برغم وجود رأي عام يرى في هذه الواجهة من الحكم المصري، مجرد أدوات يمارس بها الفرنسيون السلطة المدنية على البلاد، فقد كان هناك أيضاً رأي عام مقابل، يؤمن بأن الحكم النيابي يقي المصريين الكثير من بلايا الاستعمار الفرنسي، ويحاول تقليم أظافره، والحد من سلطته المطلقة.