دمار في اليرموك.(أرشيف)
دمار في اليرموك.(أرشيف)
الخميس 26 أبريل 2018 / 20:06

مخيم اليرموك.. تحطيم الفكرة

لم يكن اختراق أجهزة النظام الأمنية الستة عشر مثالياً كما هو في أحياء دمشق أو اللاذقية أو حمص على سبيل المثال، كان هناك مكان أقل خطورة يمكن أن يوفره مخيم اليرموك المزدحم بما يقارب النصف مليون من الفلسطينيين والسوريين

مخيم اليرموك الذي يجري تدميره الآن للمرة الثالثة، بعد حصار متواصل منذ صيف 2013، هو جزء من سوريا العزيزة المدمرة، ليس جزيرة فلسطينية صادف وأن ظهرت على بوابة دمشق في العام 1957، كما قد توحي بعض المراثي من جهة، وكثير من هتافات التحريض التي تندفع خلف كل قذيفة أو برميل تسقط على بيوته وشوارعه ومن تبقى من أهله، تشير الإحصائيات إلى أنهم بحدود الـ18 ألفاً ممن لم يتمكنوا من المغادرة، أو قرروا البقاء لأنهم لا يعتقدون أن هناك فرقاً كبيراً بين البقاء تحت حكم داعش، التي وصل مسلحوها بطرق غامضة إلى المخيم واختفوا بنفس الغموض، أو الالتجاء لمناطق النظام، وأنهم إنما يتجولون في جغرافية الكابوس نفسه.

في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي كان المخيم قبلة لكثير من المعارضين السوريين والعراقيين الذين نجوا من بطش نظام البعث في العراق، أو الذين يحاولون الاختباء من البعث السوري، كان يمكن أن تلتقي بهم في أي زاوية أو سهرة سياسية في المخيم، كانوا يصلون من مختلف الاتجاهات، في حافلات الشمال بلهجات ثقيلة وأغنيات حزينة، ويصعدون من الجنوب من حوران، ويهبطون من قرى الكرد البعيدة بحقائب صغيرة مستعارة من الأشقاء ومستخدمة بكثرة إلى "الكراج الموحد"، ومن هناك يتجهون، كما لو باتفاق، نحوه، بينما المخيم يواصل ترتيب أماكن إيواء وغرف بنوافذ مرتجلة تمس الرصيف ويمكن تبادل الحديث عبرها مع البقال وبائع الكعك وسائق "الميكروباص" الذاهب الى "العباسيين"، كان هناك دائماً بيوت أصدقاء وفضاء ملائم لكل هذا التنفس، كان قادراً على احتواء كل تلك الاختلافات وكل ذلك الجدل، لم تكن قبضة النظام الأمنية وسعي عملائه غائبة عن ذلك، ولكن كان يمكن، لأسباب كثيرة، تفادي تلك القبضة والمناورة والتواري في خلايا المخيم وزواياه.

لم يكن اختراق أجهزة النظام الأمنية الستة عشر مثالياً كما هو في أحياء دمشق أو اللاذقية أو حمص على سبيل المثال، كان هناك مكان أقل خطورة يمكن أن يوفره مخيم اليرموك المزدحم بما يقارب النصف مليون من الفلسطينيين والسوريين، بمكوناتهم الطائفية والقومية واتجاهاتهم السياسية وحزام عريض من الطلبة القادمين من المحافظات البعيدة، والريفيين الفقراء الذين وصلوا للبحث عن خبز عيالهم وخبزهم في العاصمة.

في الصباحات المبكرة كانت أحياء دمشق القريبة تتوجه نحو المخيم، حيث يمكن أن تجد كل شيء بأسعار محتملة من فاكهة الغوطة الناجية من عبقرية التصدير، إلى ربطات الخبز اللبناني المهرب مع إجازات الجنود، بينما تنطلق مسيرة من الطلبة والباحثين عن عمل من أزقة المخيم وبيوته المتلاصقة نحو أحياء دمشق وحدائقها.

لم يكن جزيرة للاجئين فلسطينيين من مدن وقرى الشمال الفلسطيني "صفد" و"صفورية" وسواهما، أو حزاماً للفقر والبطالة، كان منطقة سعي دؤوب لصناعة الحياة وتأثيثها، ومنطقة عمل ثقافي ثرية، وقبل كل شيء كان تعبيراً استثنائياً عن تلك الأخوة العميقة السورية الفلسطينية التي لن تتكرر.

يذهب اليرموك محملاً بأبنائه وبناته القتلى وبيوته المحطمة ليدخل تلك السلسلة من النهايات، التي كان لنظام البعث السوري الدور الأساس في صياغتها، "تل الزعتر" و"ضبية" و"نهر البارد" ....

هذا بالضبط ما يجري تدميره الآن في سياق طويل من تدمير فكرة "المخيم الفلسطيني"، الذي تجاوز دوره المرسوم منذ مطلع الخمسينيات من القرن الماضي كحفرة لجلوس اللاجئين الفلسطينيين وعزلهم عن محيطهم واختصار حضورهم بتلقي الإعانات.