حي اللجى البيروتي (أرشيف)
حي اللجى البيروتي (أرشيف)
الإثنين 30 أبريل 2018 / 21:03

حي اللجى... المدينة المطرودة

توفيت بلقيس حوماني قبل أشهر، ولم يعبأ النقد والصحافة الثقافية بمراجعة روايتها "حيّ اللجى"، وهكذا لحقها الغبن مرتين. فقد بقيت هذه الرواية الفريدة منذ أن صدرت في الستينيات من أسرار الرواية اللبنانية.

تأسيس بيروت الحديثة تمّ بالتأكيد عبر ملحمة نزوح واقتلاع واختلاط تشبه الصدمة، والأغلب أن هذه الفترة كلها غابت عن الرواية اللبنانية

بقيت في هامش لم تزده الأيام إلاّ هامشية. هذه الهامشية تلقي بظلالها على تاريخ الأدب اللبناني بل والتاريخ اللبناني برمته، إذ لا يزال تاريخ لبنان الحديث مغفلاً تتوزعه الجماعات المتنازعة، ولا يزال حظ كل جماعة من هذا التاريخ مرتبكاً، والأدب حتى فترة قريبة لا يزال يحمل طابع هذه المحاصصة التاريخية.

تأسس لبنان الحديث بعد صفقة تاريخية بقيت مساراتها طيّ الإغفال، لا يحمل الأدب، وخاصة الرواية، الذي يكتفي بمسار واحد يبني عليه ما يشبه الأسطورة، نظرة شاملة لتفاعلات وانقسامات وارتباكات في فترة التأسيس إذ يخرج منها كل ما شتّ عن النموذج الأساسي الذي يقتصر على جبل لبنان. فيما يبقى في الظل، وغالباً في الإهمال، في الذاكرة الشعبية التي تتناقص باستمرار، كل ما لا يمتّ الى هذا النموذج.

تأسيس بيروت الحديثة تم بالتأكيد عبر ملحمة نزوح واقتلاع واختلاط تشبه الصدمة، والأغلب أن هذه الفترة كلها غابت عن الرواية اللبنانية، هذا الغياب لم يتمّ عفواً.

الأرجح أنه يدخل في دائرة المسكوت عنه والغريب في الأسطورة اللبنانية التي كانت تتسق وتتنمذج خفية عنه. من هنا نفهم كيف بقي «حي اللجى» هامشياً فهو بالتأكيد ضد أسطورة الفلاح المهاجر والمحارب وغازي الدنيا. نفهم أيضاً أن الغبن الذي لحق بهذه الرواية هو غبن اجتماعي.

"حي اللجى" الحقيقي لا يناسب نمو مدينة هي درة المتوسط وبوابة الحضارة والعاصمة الكوسموبوليتية والوسيط بين الشرق والغرب، كما لا يناسب أدباً جعل التغني بلبنان أحد أركانه. "حي اللجى" هي ببساطة ما ينبغي إخفاؤه والسكوت عنه، إنه عار المدينة وقاعها المظلم. لذا أهملت رواية كانت بدون شك أقرب ما صدر ذلك الحين الى الفن الروائي.

لقد سلكت بلقيس الحوماني مسار نجيب محفوظ، قصدت الى الحضيض الاجتماعي ووضعت يدها على أرض الشقاء والإذلال والاعتداء والتذرّر. لا وجه للمقارنة بين "زقاق المدق" لنجيب محفوظ وبين "حي اللجى"، لكن حي اللجى من أكثر من جانب، تضارع رائعة نجيب محفوظ وهي مثل روايات نجيب محفوظ رواية مدينة، فالمدينة وحدها، تتسع لعالم المهمشين، والمدينة وحدها تتسع لما يتشقق عنه هذا العالم من آفات وتعفن وأدواء.

ليس "حي اللجى" سوى المصب الذي يستقبل في سفليته النازحين من الريف، وبالضبط الريف الجنوبي، يصل هؤلاء بعاداتهم الريفية وبخاصة العلاقات الزوجية، الى الحي الذي يضم "أحواشاً" من دوائر وحجرات ضيقة تطل على فناء فيه الحمام وفيه الماء.

تصل فطوم بطلة الرواية مع عريسها الذي يجازيها كل ساعة بالضرب المبرح، فيسكنان حجرة ضيقة يقاسمهم إياها أخو زوجها اللطيف الهادىء، الذي يولد في قلب فطوم حباً مكبوتاً، بل ما يشبه الحب، ففيه منه الغيرة والحنان.

بيروت بالنسبة إلى الرجال هي سوق الداعرات، وهي القمار والبارات، وهي المخدرات. هكذا يتشقق المجتمع النازح ويتدهور. طبعاً يضم المجتمع النازح نساء ناشزات ورجالاً لطيفين لكنّ ما ينتظر هؤلاء هو مصائر مقلوبة.

فأسعد الأخ اللطيف يستعبده الهيرويين ويخرجه من لطفه، ليلقى حتفه في مجرور، وفطوم المضطهدة لا تلبث ان تتسلط على زوجها وتترأس العائلة، فذكورية المجتمع هي أيضاً لا تصمد دائماً. هنا نصل الى الوجه المضاد للتفتت... الذهاب الى الحج... العودة الى الضيعة... والى العائلة.

نعثر عند بلقيس حوماني على الجملة الروائية، لقد اهتدت الى العامية للحوار وكتبت بلغة سلسلة خالية من التفاصح والتنميق. قادرة على التفصيل والتجزيء والتدرج والشبك والتسلسل. المدينة في أوليتها حاضرة ولو من خارج الحي، سوق الدعارة والبارات والمخدرات والشرطة، كما هي حاضرة في قدرتها على تأكّل المجتمع النازح وتشقيقه وتحويله الى مجتمع سفلي حافل بالموبقات.

المدينة هي أيضاً حي القبضايات وفي آن واحد العودة إلى الدين وربما العودة إلى الريف.