الكاتب البريطاني اليساري جورج أورويل (أرشيف)
الكاتب البريطاني اليساري جورج أورويل (أرشيف)
الأربعاء 2 مايو 2018 / 19:30

جورج أورويل الآخر

في خريف 1940، وبعد سقوط فرنسا، ظهرتْ مقالة قصيرة للكاتب البريطاني جورج أورويل (1903- 1950)، بعنوان "بلدي يميناً أو يساراً".

قال أورويل إنه يستطيع تقديم أسباب تأييده للحرب، فالبديل الوحيد عن مقاومة هتلر، هو الاستسلام له، ولذا فالأفضل هو المقاومة

ربما يعني أنه يقف مع بريطانيا العظمى، بصرف النظر عن تاريخها الاستعماري، ولتذهب قناعاته الثورية والأخلاقية إلى الجحيم، وكأنه يقول: أنا رجعي محافظ ساعة الحرب، والأفكار الثورية لدول أخرى غير بريطانيا العظمى.

تبدأ مقالة أورويل هكذا: منذ سنوات عديدة كانت الحرب القادمة كابوساً علي، وقد كنتُ ألقي أحياناً خطابات، كما كتبتُ كراسات ضدها، لكن وطني في أعماقي، ولن أخرب، أو أتصرّف ضد الجانب الذي أنحاز إليه. وسوف أدعم الحرب، وسأشترك في القتال إذا كان ذلك ممكناً.

والحكومة حتى حكومة شامبرلين، رئيس الوزراء البريطاني في هذا الوقت، تستطيع أن تضمن ولائي. قال أورويل إنه يستطيع تقديم أسباب تأييده للحرب، فالبديل الوحيد عن مقاومة هتلر، هو الاستسلام له، ولذا فالأفضل هو المقاومة. لكن أورويل يُبدي صراحةً أنه مع بريطانيا العظمى، أي أنه سيكون معها أيضاً حتى لو كانت في حالة حرب مع ألمانيا بزعامة آخر غير هتلر.

يقول أورويل في موضع آخر في المقالة: التدريب الطويل على الحس الوطني الذي تمر به الطبقات الوسطى، قد فعل فعله، وأنه ما أن تتعرض إنجلترا لخطر حقيقي حتى يصير من المستحيل علي أن أقوم بالتخريب.

اعتقد أورويل أنه من خلال تدريبه العسكري في بورما، ومن اكتشافه للعلاقة بين الأيديولوجيا والعمل العسكري في إسبانيا، سيكون لديه الكثير مما يفعله، ليساهم به في المجهود الحربي، سواء في القتال بالفعل، أو بالمشورة والنصيحة، ولذلك كانت خيبته كبيرة حين لم يحتج أحد إلى خدماته.

يكتب رسالة لجيفري غورر: فشلت حتى الآن في خدمة حكومة صاحبة الجلالة، بقدراتي، مع أنني أريد ذلك، ويبدو أننا ما دمنا الآن في هذه الحرب الدموية اللعينة، فإننا يجب أن نكسبها، وأنا أحب أن أقدم يد العون. إنهم لا يريدون أخذي في الجيش بسبب مرض رئتي. وعلق الشاعر بول بوتس في ما بعد، بأن وزارة الحربية بذلت جهداً لإبعاده عن الحرب أكبر بكثير مما بذلته لاجتذاب العشرات غيره إليها.

كان أورويل يكتب، ويقوم بأعمالٍ حول البيت والحديقة، ويأخذ كلبه البودل "ماركس"، لمطاردة الأرانب. يُعلق برنارد كريك كاتب سيرة أورويل في صورة سؤال: أرانب بورجوازية؟ سيكون التخلي عن العمل أمراً غير واقعي من الناحية الاقتصادية بعد أن تدنى دخله كثيراً.

يكتب أورويل في مقالته "أسبوعيات الأولاد" التي كُرست لسياسات الثقافة الشعبية: إنني أرى ما يشبه النقد الأدبي الاجتماعي مثيراً جداً، وكم أود أن أكتب الكثير من ذلك مع كتَّاب آخرين، ثم يقول في رسالة إلى جيفري غورر: ولكن لسوء الحظ هذه لا تدر مالاً. كل ما سيعطيني إياه غولانكز مقدماً عن كتاب المقالات، هو 20 جنيهاً.

استمر أورويل في محاولاته للتطوع، وقال لجون ليمان: أُبلغت من قبل وزارة الحربية أنهم لم يعودوا يأخذون على أي شخص أن يكون قد قاتل في الحرب الأهلية الإسبانية، ولكن مع ذلك ما من لجنة طبية تقبل أن تُنجحه. كان أفضل ما يستطيع أورويل فعله، هو أن يلتحق بفرقة المتطوعين المحليين، التي صارت تُعرف في ما بعد بالحرس الداخلي.

صار أورويل يُبالغ في أهمية فرقة المتطوعين المحليين، وكأنها فرقة حمراء كاتالونية عرفها قبل ذلك في الحرب الأهلية الإسبانية. أبلغته رسالة من وزارة القوى الجوية في نيسان (إبريل) 1941، أنه لا توجد أماكن شاغرة في مكتب مدير العلاقات العامة. كان أورويل يشعر بوجود نوع من التحامل على كل الذين قاتلوا في صفوف الجمهوريين الإسبان.

عرف أورويل أنهم في دائرة الرقابة، كانوا ميالين إلى رؤية "الحمر" كلهم خطرين، دون تمييز، مع أن أورويل أثبت أكثر من مرة أنه كان شيوعياً فقط، خارج حدود بريطانيا العظمى.

وصف أورويل مرضه في رسالة إلى أخت زوجته، بالكلمات الآتية: فجوة كبيرة نسبياً في رئتي اليسرى، وأنا هنا منذ شهر، والعلاج الذي يقدمونه لي، يتلخص في تعطيل رئتي اليسرى عن العمل، لستة أشهر على ما يبدو، الأمر الذي يعطيها فرصة أكبر للشفاء.

في البدء قتلوا العصب الحجابي الذي أظن أنه هو الذي يجعل الرئة تتمدد وتتقلص، ثم صاروا يضخون الهواء عبر الحجاب الحاجز، والذي فهمت منهم أنه لدفع الرئة إلى وضعية مختلفة، ولمنعها من الحركة التي تحدث تلقائياً. ويجب أن أتلقى إعادة تعبئة الهواء في الحجاب الحاجز مرة كل أسبوع. نزفتْ رئة أورويل ليلة 21 كانون الثاني (يناير) 1950، ومات على الفور، وهو وحيد.