الشاعر الفلسطيني محمود درويش.(أرشيف)
الشاعر الفلسطيني محمود درويش.(أرشيف)
الإثنين 7 مايو 2018 / 20:40

درويش بعد بيروت

الشاعر الفلسطيني الذي خرج إلى الدنيا حاملاً صوت فلسطين، وكان هذا دوره ومهمته الأولى ونمطه، لم يختر هذا لنفسه، لقد اختير له قبل أن يكون، اختاره له الشعب واختارته له المأساة ولم يكن الوحيد

بعد الإجتياح الإسرائيلي لبيروت 1982 نزح محمود درويش عنها. كان هذا النزوح مفصلياً في حياة درويش وفي شعره والأرجح أنه نقلة في شعره تكاد تكون حاسمة. لقد تحرر الشاعر من الإلقاء. تحرر من قصيدة راهنية يتوجه خطابها إلى جمهور حاضر وتستنفر جمهوراً حاضراَ وتقاس على مجاراته، ما يستدعي درجة من التحريض والتعبئة.

 تحرر محمود درويش من الجمهور ومن خطابه. لقد صارت قصيدته، حتى تلك الجماهيرية، ذات سلطة على الجمهور والجمهور يرضى بها وإن تحررت من نمطه ومن التوجه المباشر إليه، ومن تقليب أحوال ومواقف ورسائل ذات إثارة مضمونة له. من هذه الناحية انقلبت العلاقة بين الشاعر والجمهور، فالشاعر يتجاسر على أن يسرّب إلى شعره صوراً ونهايات غريبة والجمهور يراعيها فيقبلها وبعد ذلك تغدو من عدته ومن جهازه. هكذا يتعلم الجمهور من الشاعر ويتسع مخزونه. لكن ما فعله محمود درويش في هذا المجال، هو أنه ضمن الجمهور وتحرر منه.

 المجموعات الشعرية التي تلت النزوح عن لبنان تحوي في جانب كبير منها قصائد لا جماهيرية. قصائد لا تتوخى اشتراك الجمهور في التجربة، إنها تعقيبات شعرية على أحوال خاصة، وليدة التسكع والمشاهدات والملاحظات، الحب جانب منها. لكن هذه القصائد أقرب الى أن تجد مادتها ومواضيعها في لحظات خاصة وفردية. ثم إنّ هذه القصائد تتجاسر على معاداة الجماهيرية والتنديد الصريح بها، فمحمود درويش، شاعر الجماهير، صار في مواقف كثيرة عدو الجماهير وبعض من شعره تهكم على هذه الجماهير وعلى روحها وشعاراتها. الشاعر الجماهيري يتهكم من نفسه ومن ماضيه ومن جمهوره. ربما كان محمود درويش الأقدر على أن يفعل هذا، بل أن يجعل منه موضوعه، فهو بالتأكيد الوحيد الذي تدخل هذه المسألة في معاناته، وهو الوحيد الذي يعاني جماهيريته ويتصارع معها ويُنتقد عليها، بدون أن يتحرر منها. كان يريد أن يصنّعها، أن يمتحنها في قصائد ومطولات تطير أعلى منها. الجمهور الذي تدخل هيئةُ الشاعر وصوته واسمه في حسابه، يراعيه ويقبل منهم برضى ما كتب قصداً ضده وضد ذوقه ونمطه فيقبل منه، وربما يأنس بتهكمه وتطاوله. محمود درويش هو الوحيد تقريباً الذي جعل من هذه الجماهيرية موضوعاً لشعره.

 الشاعر الفلسطيني الذي خرج إلى الدنيا حاملاً صوت فلسطين، وكان هذا دوره ومهمته الأولى ونمطه، لم يختر هذا لنفسه، لقد اختير له قبل أن يكون، اختاره له الشعب واختارته له المأساة ولم يكن الوحيد، لقد اختير له آخرون فزعوا لهذا الدور والتجأوا اليه وارتضوا به. وحده محمود درويش الذي جعل من معركته حول هذا الشعر مع نفسه وجمهوره ونقاده، قصيدة بذاتها. قال في الشعر شعراً ما لم يقله نثراً في "كزهر اللوز أو أبعد" القصيدة الأولى من ثلاثية تحمل عنوان "منفى" وتحت عنوان، "نهار الثلاثاء والجو صاف" والقصيدة كما يوحي عنوانها تكاد تكون جزءاً من مذكرات يومية : "نهار الثلاثاء والجو صاف /أسير على شارع جانبي مغطى بسقف من الكستناء". المكان والزمان متعيّنان لكن الشاعر يقول: "أسير خفيفاً كأني تبخرت من جسدي/ أنظر في ساعتي شارداً".

سيعاود الشاعر غير مرة تكرار "أسير" أو "أمشي" خفيفاً خفيفاً، واذا أضفنا اليها "كأني تبخرت من جسدي" فإننا نقع على مفارقة. المشي يمتّ إلى الأرض أما، إنه على شارع جانبي، أما الخفة كما يفسرها الشاعر "كأني تبخرت من جسدي"، فهي تمت إلى الفضاء وكأني بالشاعر الذي يمشي كائن فضائي. أنه "يحدق في اللافتات" و"يدندن لحنا بطيئاً كما يفعل العاطلون عن العمل". هذا الكائن الفضائي يتسكع ويحدث نفسه: "أهجس، أهمس في السر/عش غدك الآن/ مهما حييت فلن تبلغ الغد/لا أرض للغد".

هنا نفهم ان المكان والزمان متعيّنان شكلاً، فالجسد يكاد يطير، والزمان واقف عند هذا اليوم و"لا أرض للغد ولا وقت للغد". وحين يقول الشاعر في مقطع آخر مخاطباً نفسه :"إنك سجان نفسك"، نفهم هذه الحدود وقد يخطر لنا أنّ هذا هو المنفى.