المستعرب الفرنسيَّ آندريه ميكيل.(أرشيف)
المستعرب الفرنسيَّ آندريه ميكيل.(أرشيف)
الخميس 10 مايو 2018 / 20:10

سرديات العالم.. دراسات في الجغرافيا البشريّة عند العرب

نحن هنا لا أمام بحث تجريديّ يقوم به عالم يمّحي شخصه وراء موضوعه، بل إزاء ذوات حسّاسة لها رؤية وفلسفة وذوق وقلق نستشفه عبر كتاباتها

المستعرب الفرنسيَّ آندريه ميكيل هو أستاذ كرسي اللغة والأدب العربيين الكلاسيكيين في الكوليج دو فرانس. وقد ألَّف أكثر من سبعين كتاباً وعشرات المقالات عن الثقافة العربّية القديمة منها ترجماته لكتاب "كليلة ودِمنة" وكتاب "الليالي العربيّة" أو "ألف ليلة وليلة" بالتعاون مع الناقد الفرنسيّ من أصل جزائريّ جمال الدين بن شيخ. ومنها كذلك كتابته عن بعض الشعراء العرب القدامى ومجنون ليلى شاعراً وعاشقاً والمقدسي وابن بطوطة وأسامة بن منقذ وغيرها. ويُعد كتابه "العالم والبلدان، دراسات في الجغرافية البشرية عند العرب" واحداً من أهم المراجع الحديثة التي لا بدَّ للباحث من الرجوع إليها، خاصة أنَّها لا تتناول الجغرافيا الوصفيّة فقط وإنَّما تتناول كذلك الجغرافيا الثقافيّة كما سأبين بعد قليل.

إنَّ هذا الكتاب هو جزء من أطروحة دكتوراه ضخمة جداً مكوَّنة من أربعة أجزاء تحمل عنوان "الجغرافية البشرية في العالم الإسلاميّ حتى منتصف القرن الحادي عشر الميلادي"، وتحمل الأجزاء الأربعة عناوين فرعية؛ فالجزء الأول يحمل عنوان "الجغرافية والجغرافية البشرية من البدايات حتى سنة 1050 م"، والجزء الثاني يحمل عنوان "الجغرافية العربيّة وتصوّرها للعالم الأرض والبلدان الغربيّة"، ويحمل الجزء الثالث عنوان "الوسط الطبيعيّ"، والجزء الرابع "الأعمال والأيام".

أسمى آندريه ميكيل الجغرافيا التي اشتغل عليها في أطروحته بتسمية "الجغرافية البشرية" لثلاثة أسباب كبرى كما يذكر مراجع الترجمة البروفيسور كاظم جهاد؛ فهي جغرافية بشرية أولاً لأنَّ البشر يحتلون مكاناً هاماً لا بل الأكبر في جميع النصوص المعنية، مأخوذين في تنوّع مواقفهم وأوضاعهم وأنشطتهم، أيّ على خلاف ما نرى في الجغرافيتين الرياضية والطبيعية، اللتين تكتفيان بصور نمطية. وهي جغرافية بشرية ثانياً لأنَّ الإنسان فيها هو مركز الكون كلّه، له تُسخَّر الأشياء ضمن تصوّر إسلاميّ وإغريقيّ قبله يرى في الإنسان صورة صغيرة عن الكون، كوًنا أصغر، ويؤكد علاقة سلوك الإنسان وطبعه ومكانه في العالم وتحت النجوم. لا بل إنَّ الطبيعة نفسها مُؤنسنة أو مشخّصة في هذه النصوص، فالبحر يغضب أو يغتاظ، والأرض تشيخ. وهي ثالثاً وأخيراً جغرافية بشرية، لأنها، خلافاً مرة أخرى لجغرافية الطبيعية المحض أو لتلك التي تُعنى برياضيات الكواكب، جغرافية للبشر بمعنى أنَّ البشر هم موضوعها وصانعوها بامتلاء. فنحن هنا لا أمام بحث تجريديّ يقوم به عالم يمّحي شخصه وراء موضوعه، بل إزاء ذوات حسّاسة لها رؤية وفلسفة وذوق وقلق نستشفه عبر كتاباتها. إنَّ هذه الرؤية أو الفلسفة ينعتها آندريه ميكيل بالكليّة أو الأدبيّة. إنَّ هذه الجغرافية سنقابل فيها من خلال الكتاب عددًا هائلاً من الوجوه". أمامنا يتحرك وينطق عبر النصوص جغرافيون وخرائطيون وعلماء بالكونيات ورحّالة وأعضاء سفارات ووفادات وحُجاج وتُجار وبحارة وسواهم. كما نقابل وفرة من المصادر؛ فالوثائق التي يعتمدها ويحللها لاتنحصر في الكتب بل تشمل أدلة الحج والملاحة وتقارير مبعوثين وأقوال تجار وحكايات ملّاحين عالجها هو باعتبارها شهادات لا على التاريخ الفعليّ طبعًا بل على إرهاصات حقبة معينة، وبالتالي على تاريخ الذهنيات وتحولات المخيال الاجتماعيّ.

في الدراسة الملحقة بالكتاب التي عنونها آندريه ميكيل بـ"جغرافية العرب البشرية بعد القرن العاشر الميلاديّ" بيّن ميكيل تأثير العوامل السياسّية الكبرى في هذا القرن الإشكاليَّ بالذات في إحداث تغيير كبير جدًا أدّى إلى قطيعة معرفية ثقافيّة مع مدرسة "أطلس الإسلام" التي كان يمثلها الرباعي الجغرافي: البّلخيّ والإصطخريّ وابن حوقل والمقدسي. لقد كان هؤلاء الأربعة معنيين في جغرافيتهم البشرية بمملكة الإسلام وبدار الإسلام بوصفها مركًزا للكون، وكانت السياقات التي يرد فيها ذكر للشعوب والجماعات الأخرى التي لاتنتمي إلى هذه المركزية الإسلاميّة سياقات نادرة جدًا وشديدة الوجازة مقارنة بضخامة المادة المسرودة المتعلقة بمملكة الإسلام. تحوَّلت الجغرفيا البشرية الإسلاميّة إلى وصف العالم وإلى سردياته الكونيّة بعيدًا عن الحدود الضيقة لأطلس الإسلام وقد تزامن هذا التحوّل مع ظهور اتجاهات من الميل إلى الموسوعات الثقافية أو المصنفات الموسوعية الكبرى وضخامة إنتاجها، ومن الميل إلى الكتابة في العجائبيّ والغرائبيّ خاصة فيما يتصل بسرديات الرحّالة العرب المسلمين.

 ترجم الكتاب إلى العربية محمد آيت حنّا وراجع الترجمة الدكتور كاظم جهاد، والكتاب في ترجمته العربيّة صادر عن مشروع "كلمة الإماراتي للترجمة. والترجمة العربية للكتاب هي جزء من الأطروحة الضخمة لآندريه ميكال التي لم تُترجم كاملة حتى الآن إلى العربية. وتضم الترجمة العربية قسمين هما العالم والبلدان وثلاث دراسات هي المجتمع الإسلاميّ على مشارف القرن الحادي عشر الميلادي وجغرافية العرب البشرية بعد القرن العاشر الميلاديّ والحروب الصليبية كما شهدها أحد المسلمين، سيرة أسامة بن منقذ الذاتية. إنَّ هذا الكتاب من أهم الكتب التي تشكَّل مرجعية معرفية لاغنى عنها للباحث في سرديات الرحلة العربية القديمة. وشكرًا لمشروع كلمة للترجمة وللدكتور كاظم جهاد والمترجم محمد آيت حنا على هذه الإضافة المعرفية الحقيقية.