أولاد يتفرجون على غزل "الكنافة البلدي".(أرشيف)
أولاد يتفرجون على غزل "الكنافة البلدي".(أرشيف)
الثلاثاء 22 مايو 2018 / 20:47

رمضان في شوارع مصر

رمضانُ هناك صامتٌ وخامدٌ لا يختلفُ عن بقية شهور العام. رمضانُهم لا يشبه رمضانَنا. رمضانُنا حيٌّ يتكلمُ ويغنّي ويزغرد

لمحةٌ واحدة تكفي لتستنتجَ كثافةَ عدد الأطفال في هذا الشارع في مصرَ، أو ذاك. ولمحةٌ أخرى تُخبركَ عن متوسط أعمار هؤلاء الأطفال، أو إنْ كان من بينهم صِبْيَةٌ أكبرُ سِنًّا. أحبُّ هذه اللعبةَ كلّما حلَّ شهرُ رمضان المعظّم على سماء بلادي. لعبةَ التجوّل في شوارع القاهرة، والحدس بأعمار أطفالها، دون الحاجة لأن أراهم. رمضانُ في مصرَ لا يشبهه رمضانُ أيةِ بقعةٍ من بقاع الأرض. هو في مصرَ أجملُ وأكثرُ ثراءً. يعرفُ المصريون كيف يخلقون من مناسباتِهم الدينيةِ طقوسًا دنيويةً مبهجةً، فيغنمون المتعةَ الروحية والاجتماعية في آن. ويعرف الأطفالُ المصريون كيف يجعلون شوارعَهم تختالُ ألوانًا وفرحًا في رمضان، حتى تكادَ ترى الشوارعَ والحواريَ والأزقّةَ تضحكُ. وإنْ أصختَ السمعَ، سوف تسمعُ هذا الشارعَ يقول: "لديّ أطفالٌ كثيرون يغسلونني بماء الفرح. في هذا البيتِ وحدَه سبعةُ أطفال، بنتان وخمسةُ أولاد، وفي البيت ذاك الذي على الناصية توءمان في الصف الرابع، وفي الدور الثالث من تلك العمارة العالية ولدُ وبنتٌ، هم جميعهم مَن رسموا صفحتي بالألوان. حين أبصرتُهم يجهّزون بكراتِ الخيط، وقصاصاتِ الورق الملوّن، ومحلولَ النشا والصمغ، أدركتُ أن شهرَ رمضانَ سيطرقُ البابَ بعد برهة.” يُكمل الشارعُ كلامه قائلاً: "أطفالي كما ترون صغارٌ، لذلك مدَّدوا بين نوافذي خيوطًا مشبوكًا بها مثلثاتٌ من الورق الملون، ثم علّقوا بينها فوانيسَ صغيرةً من الورق المقوَّى. الحارةُ المجاورة لي، لديها صِبيانٌ وبناتٌ أكبرُ عمرًا، قدروا أن يصنعوا ذلك الفانوسَ الضخم بعيدان الخشب والخيزران وشرائح الزجاج الملون والكرانيش الكوريشة. بعد عام أو عامين سوف يكبرُ أطفالي ويصنعون لي فانوسًا أكبرَ من ذلك الذي تتيه به خُيلاءً جارتي الحارةُ الضيقة!"

شوارعُ مصرَ في رمضانَ لا تعرفُ شيئًا عن الأزمة الاقتصادية العالمية، ولا عجز الموازنة في مصر الآن. لا يعنيها مفرداتٌ من قبيل التضخّم وانهيار الجنيه والركود والبطالة والعطالة. شوارعُ مصر تُصِرُّ على الفرح رغم الفقر ورغم العَوَز ورغم الأوبئة والمرض. ليس ضروريًّا أن يكونَ أطفالُ الشارع من أبناء الأثرياء حتى يزيّنوا شارعَهم. ربما العكس هو الحادث. تجّولْ في أرجاء مصرَ لتكتشفَ أن البسطاءَ هم القادرون أكثرَ على صناعة الفرح! هم المُصِرّون أكثرَ على عدم التفريط في بهجةٍ ينتزعونها انتزاعًا من فمِ غول شرس اسمُه العَوَز. أبناءُ الشارع الأرستقراطيّ سوف يشترون زينةَ رمضانَ جاهزةً من محال الزينة. رقائقُ من البلاستيك زاهيةُ الألوان. فيما رمضانُ يكون أكثر فرحًا في الحارات الفقيرة. لأنه يحبُّ أن يصنعَ أطفالُها زينتَه بأيديهم.

رمضانُ لا يحبُّ الملابسَ الجاهزة. أبناءُ الحارة الفقيرة سيجمعون قروشهم القليلة لشراء بعض الصمغ. ثم تجود كراساتهم وكتبهم القديمة بأوراقها، ويقومُ مقصُّ إحدى الأمهات بمهمة تحويل تلك الأوراق إلى مثلثاتٍ ومربعاتٍ ومعيّناتٍ ودوائرَ، وسوف تمنحهم إحدى الأمهات الأُخَر بكرةَ خيط باقيةً من خياطة كسوة لحاف قطنيّ، (ينام الآن فوق الدولاب انتظارًا لفصل الشتاء)، وربما تتبرع أمٌّ أخرى بكيس نشا، كانت تدخره لصناعة بعض أطباق الأرز باللبن لصغارها.

زرتُ العديدَ من بلاد العالم العربي في رمضان. رمضانُ هناك صامتٌ وخامدٌ لا يختلفُ عن بقية شهور العام. رمضانُهم لا يشبه رمضانَنا. رمضانُنا حيٌّ يتكلمُ ويغنّي ويزغرد. الشارعُ المصريّ يعرفُ كيف يستقبلُ شهرَ الصوم بما يليق به.

لذلك يحبّنا رمضانُ ويحبُّ أماسينا وسهراتنا. يحبُّ صوتَ محمد رفعت حين يرفعُ الأذانَ وقت المغرب، بعدما يتأكد أن كلَّ الشوارع قد انفضَّ الناسُ عنها، ليتحلّقوا حول أكواب الخُشاف على موائد الإفطار، وبعدما ينطلقُ المدفع من قنوات الإذاعة المصرية. صوتُه العميقُ الآتي من مسارب الجنّة يجعلُ الزمنَ يتوقفُ، والأرضَ تسكنُ عن دورانها. الأرضُ تنتبه أن تلك اللحظةَ ليس من شبيه لها في الدنيا بأسرها. لأن لا مكانَ بكل الدنيا أنجبَ صوتًا يشبه صوتَ سيد النقشبندي حين يقول: "مولاي إنّي ببابكَ قد بَسَطتُ يدي، مَنْ لي ألوذُ به إلاكَ يا سَنَدي؟"