الممثل الإنجليزي دانييل دي لويس (أرشيف)
الممثل الإنجليزي دانييل دي لويس (أرشيف)
الأربعاء 30 مايو 2018 / 20:46

سيكون هناك دم

قد يرى البعض أن دور الممثل الإنجليزي دانييل دي لويس في فيلم "There Will Be Blood" أو "سيكون هناك دم"، للمخرج بول توماس أندرسون 2007، أعظم أدواره على الإطلاق.

حجة السيد دانييل بلانفيو في إقناع الناس ببيع أراضيهم، قوية، ومتعجرفة، وتتضمن قَدَرَاً مكتوماً، يُصعب رفضه من أصحاب الأراضي، الفقراء الذين يقبلون بالمال الفوري،

كان يُعتقَد أنه لن يصل إلى قمة دور الجزار في فيلم "عصابات نيويورك" للمخرج مارتن سكورسيزي 2002، مثلما كان يُعتقَد أيضاً، وباطمئنان إلى قدرات تمثيله الخرافية، أن دانييل لن يهبط في ضعف الأداء إلى قاع سحيق من السخافة والرداءة والمُراهَقَة، كما حدث له في فيلم "Nine" أو "9" 2009، للمخرج الأمريكي الأرعن روب مارشال، الذي تجرّأ بسذاجة على تقليد فج أو محاكاة خرقاء، لفيلم علامة من علامات السينما الحديثة، وهو فيلم "8" 1963 للمخرج الكبير فيديريكو فيلليني.

اعتقد، روب مارشال ودانييل دي لويس، أنهما أضافا نصفاً لرائعة فيلليني.

لكنني أعود الآن إلى الفيلم القوي "سيكون هناك دم". دانييل دي لويس في دور دانييل بلانفيو، وهو رجل منفرد، ذئب البوادي، الباحث عن الفضة أو الذهب في أعماق منجم بدائي، في صحراء جنوب كاليفورنيا عام 1998.

الشرر المتطاير من اصطدام الفأس المدبب، بالحجر الصلد، حول ملامح دانييل القاسية، يؤكد أن هذا الرجل، سيجد المال، ولن يفلته. يجد دانييل عام 1902 صدفةً، الذهب الأسود، النفط، بديلاً عن الفضة والذهب. يفقد بلانفيو أحد عماله المخلصين في التنقيب.

سمة الإخلاص والتفاني والعمل بصمت في طاقم عمل دانييل بلانفيو، يشبه الإخلاص والتفاني والعمل بصمت من المخرج بول توماس أندرسون وطاقمه، لإخراج أفضل ما لدى دانييل دي لويس. يتبنىّ بلانفيو طفل عامل التنقيب، ويعطيه اسمه، إتش. دبليو. بلانفيو، ويستخدم براءة وجه الطفل، كواجهة خادعة، لشراء الأراضي من أصحابها، فهو رجل عائلة، وليس ذئباً في البوادي، ويحترم كل ما يتصل بالعائلة على طريقة فيلم "الأب الروحي" لكوبولا.

حجة السيد دانييل بلانفيو في إقناع الناس ببيع أراضيهم، قوية، ومتعجرفة، وتتضمن قَدراً مكتوماً، يصعب رفضه من أصحاب الأراضي، الفقراء الذين يقبلون بالمال الفوري، وهو مال لا يُماطل فيه السيد دانييل بلانفيو، بعد الاتفاق عليه. يقول دانييل بأنه جاء لشراء الأراضي، وبأنه تاجر نفط، ومُنقب آبار، لا يخسر معداته، ولا يُفسد أرضاً يشك فقط بوجود نفط بها، عليه أن يتأكد أولاً من وجود النفط، وهذا ما يُميزه عن رجال أعمال آخرين.

تظهر براعة دانييل دي لويس في أدائه الجسدي والصوتي. أولاً الصوت، يضغط دانييل على بعض الكلمات بطريقة ثقيلة، وهو يدعمها بملامح وجهه، بل قد يُعلق حروف كلمة في هواء الصمت، لأهميتها القصوى، ثم تأتي نهاية الكلمة بهجوم جسدي، كما سيأتي وصفه في مشهد المواجهة بين دانييل بلانفيو الأب، وإتش دبليو بلانفيو الابن.

ثانياً الجسد، يعتمد دانييل دي لويس طريقةً غريبةً في المُباعدة بين ساقيه المتصلبتين، هذا الخليط ما بين العَرج المؤقت أحياناً، وبين آثار العمل الشاق على ظهره، وعلى ساقيه. الأكثر غرابة أن مشية دانييل بلانفيو، تبدو للمُشاهِد طبيعية، غير مُفتعلة، وكأن دانييل دي لويس نفسه، وليس دانييل بلانفيو، هو من يمشي هكذا في الحقيقية.

يأتي إيلاي صنداي الشاب، الراعي للكنيسة أو القس المتعصب، مشعوذ المعجزات، لدانييل بلانفيو، ويعرض عليه شراء أرض عائلته التي ترشح بالنفط، ويطلب سريعاً المال. يعطيه دانييل مبلغاً من المال، لكن دانييل يذهب بنفسه إلى عائلة صنداي، ليتأكد من علامات وجود النفط. يُحاول دانييل بلانفيو تنحية إيلاي صنداي في إبرام صفقة شراء الأرض من والده، لكن الصفقة تُبْرَم على مضض بإيلاي ومبنى كنيسته الذي وعد دانييل ببنائه.

أثناء أعمال الحفر يطلب إيلاي صنداي من دانييل بلانفيو، أن يُبارك هو إيلاي صنداي باسم الكنيسة بداية إنتاج النفط. يوافق دانييل، لكنه في آخر لحظة، يضرب مُحَاوَلَة إيلاي، بأن يجعل الصغيرة ماري صنداي، شقيقة إيلاي الصغيرة، هي مَنْ تُبارك بداية إنتاج النفط، وابنه بالتبني إتش دبليو بلانفيو، هو مَنْ يجذب رافعة البداية.

لمُعاينة إيلاي صنداي، يذهب دانييل بلانفيو إلى الكنيسة، فيجد القس إيلاي صنداي يقوم بأداء مسرحي كهنوتي، يشفي فيه، سيدة عجوزاً من التهاب المفاصل، وذلك بنزع الشيطان من بين يديها. وبمزيد من ترويض القس، يعرض دانييل بلانفيو على إيلاي صنداي بعض التجديدات والتوسيعات لمبنى الكنيسة. يُصاب إتش دبليو بلانفيو الابن في أذنيه، بسبب انفجار غاز من بئر النفط. تشتعل البئر، ويتدفق النفط.

يُصاب إتش دبليو بلانفيو بالصمم، ومنذ الآن، وبشكل واضح، يُربي إتش دبليو بلانفيو الابن، الكراهية الصامتة، والخبث، والعداوة، قطعة قطعة، نحو دانييل بلانفيو الأب. ربما لم يشعر إتش دبليو بلانفيو الابن، حتى قبل الحادث، بمشاعر "حب"، وهي كلمة مُفْتَقَدَة في قاموس المخرج بول توماس أندرسون منذ فيلمه الشهير القاتم Magnolia "ماغنوليا" 1999، تجاه والده بالتبني دانييل بلانفيو.

تزدهر آبار دانييل بلانفيو، إلا أنه يقع مرةً ثانية في قبضة القس الشاب إيلاي صنداي، فهناك أرض يريد دانييل مد أنبوب نفط فيها، والأرض داخل ملكية العجوز باندي، الذي يؤمن بشعوذات القس إيلاي صنداي، وهو على استعداد لمد أنبوب النفط في أرضه، شرط أن يخضع دانييل للاعتراف بالخطيئة في كنيسة إيلاي صنداي. دانييل بلانفيو لن يُفلت المال مهما حدث، ومهما كانت العقبات. يذهب دانييل للكنيسة، وأمام رعاياها، يعترف أنه آثم، ويركع أمام القس الشاب إيلاي صنداي، ويُخرج القس إيلاي، الشيطان من جسد دانييل بلانفيو، عبر الصفعات المتتالية على وجهه.

بعد سنوات، يدخل إتش دبليو بلانفيو على دانييل بلانفيو، ويطلب منه حقه في المال، فهو يريد أن يبتعد، ويؤسس شركته الخاصة في التنقيب عن النفط. دانييل بلانفيو، ذئب البوادي، لا يقبل بالمنافَسة. يقول دانييل دي لويس في أعظم أداء له: الحقيقة أنك لست ابني، ولم تكن كذلك، أنت Orphan "يتيم"، يُعلّق دي لويس الكلمة في فمه قبل أن ينطقها، وكأنه سيلفظ لقمة مسمومة، ويتقدم بجسمه على المكتب، ليؤكد كلمته، بملامح وجهه. قمة أداء دي لويس. يقول دانييل بلانفيو لإتش دبليو بلانفيو: أنت يتيم وجدته في سلة بوسط الصحراء. كنتُ أحتاج وجهاً حسناً لشراء الأراضي.

بنفس قوة أداء دانييل دي لويس، ينتهي فيلم "سيكون هناك دم"، بلقاء مع إيلاي صنداي القس الزائف، الذي جاء بعرض آخر، لشراء أرض، وتوصية عمل في هوليوود، لأحد رعايا كنيسته. نحن في عام 1927. قاعة بولينج فخمة في قصر السيد دانييل بلانفيو، الذي يطلب من القس إيلاي صنداي، أن يعترف أولاً، وبصوت عال، كأنه أمام رعايا كنيسته، بأنه قس كاذب. يقبل إيلاي صنداي، وكأن قبوله يعني أن دانييل بلانفيو سيحقق طلبه، شراء الأرض، وتوصية العمل في هوليوود.

بعد اعتراف إيلاي صنداي بكذبه، يصرّح دانييل بلانفيو، بأن الأرض اشتراها، وهي حُفِرَتْ بالفعل، ويتجاهل توصية العمل في هوليوود. يتباكى القس إيلاي صنداي، فيضربه دانييل بلانفيو بقطعة بولينغ، خشبية ثقيلة، على رأسه حتى الموت.