السبت 2 يونيو 2018 / 20:57

الكتب المطروحة على الأرصفة

حين تقف عند باعة الصحف الذين يرصون كتبا مختلطة الألوان على الأرصفة، تقتحم عناوين غريبة مثيرة عينيك، وتدهشك أسعارها الرخيصة، وتفجعك أن بها كتبا أصدرتها دور نشر قبل أيام، وتباع بأسعار أعلى، فتوقن أن النسخ التي أمامك مقلدة أو منتحلة أو مزيفة، وأغلبها لعناوين يعتقد الباعة أن الطلب عليها سيكون أكبر.

دعنا من هؤلاء الباعة الذين يستسلهون هذه الكتب ولا يبحثون عن غيرها، ربما تكون أكثر إفادة، وهذا يتم تحت وهم اسمه "الأكثر مبيعا" لكن البائع تاجر يبحث عن الرائجة التي تحقق له ربحا سريعا. لكن الأهم لدي هم باعة الكتب القديمة، فهم الأكثر أصالة وتنوعا.

فلا ينسى من تآلف مع القراءة، فصار منها وصارت منه، فضل باعة الكتب القديمة عليه، خاصة إن كانت يده مغلولة عن شراء الكتب الجديدة، أو كان يبحث عما جافته المطابع ودور النشر من كتب قيمة، لمجرد أنها لم تعد تجارية، وأن الجيل الجديد لا يعرف مؤلفيها الكبار لأنه لا يوجد في إعلامنا وتعليمنا ما يذكر بهم مرارا، أو حتى كان هذا القارئ يحب رائحة هذه الكتب أو زمن كتابتها.

كنت ولا زلت واحدا من هؤلاء، وليس بوسعي أن أقتل في ذاكرتي أو أنهك صورتي وأنا واقف أمام الكتب المرصوصة على "سور الأزبكية" أيام الجامعة، حين كنت أدخر من نقودي الشحيحة، وأذهب إلى هناك قبيل امتحانات آخر العام لأجمع زوادة الصيف من الكتب. فأيام الدراسة كانت مكتبتا جامعة القاهرة وكلية الاقتصاد والعلوم السياسية تقومان بالواجب وأكثر، أما في الإجازة فكان علي أن أبحث عما أقتات عليه خلالها، فكان السور، وكان بائع الكتب القديمة في مدخل المدينة الجامعية وكنا جميعا لا نعرف له إسما إلا "الكابتن"، وكنا نمر به في الذهاب والإياب، نمعن النظر في فرشته العامرة بالكنوز، ونلتقط منها ما يروق لنا، وما نشعر أنه يضيف إلى معارفنا وطرق تفكيرنا. وقبل أن أنهي عامي الدراسي الأخير سنة 1989، أتى بائعون وفرشوا الجامعة في مقابل كلية الآداب، وكان آخر يفترش سور كلية الزراعة بالقرب من ميدان الجيزة، فصار كليهما موردا لي.

ومن السور والكابتن وغيرهما كونت مكتبة في قريتي، كانت بها كتب في المجالات عدة، الآداب والفنون والعلوم السياسية والاجتماع والاقتصاد والفلسفة وعلم النفس وكتب العلوم البحتة المعدة لغير المتخصصين، وكثير من الدوريات الثقافية، لاسيما الهلال وعالم الفكر والعربي والدوحة وأدب ونقد ونسخ قديمة من مجلة الكاتب وغيرها، وهي مجلات ما إن اكتشفتها، هي والسلاسل الشهيرة، مثل "عالم المعرفة" و"كتاب اليوم" و"زدني علما" و"الكتاب الذهبي" وغيرها، حتى ذهبت أبحث عنها أعدادها القديمة في السور، وكانت الكابتن يأتينا ببعضها.

ورغم أن كثيرا من المثقفين استفادوا من باعة الكتب القديمة، فكونوا مكتباتهم في مقتبل حياتهم، على وجه الخصوص من عندهم، فإنهم لم يبذلوا جهدا حقيقيا في سبيل الارتقاء بهم، سواء بمساعدتهم على إنشاء نقابة لهم، أو بصناعة همزة اتصال بينهم وبين دور النشر الكبرى والصغرى، خاصة من خلال إطلاق طبعات شعبية من الكتب، تساعد في حفظ الملكية الفكرية، ووصول الكتب إلى قطاع عريض من القراء غير القادرين.

ودور النشر الحكومية لديها عشرات الأطنان من الكتب مكدسة في المخازن، ولا يتم تصريفها نظرا لوجود قوانين معوقة تحول دون ذلك، ومن الضروري أن يتحاور المثقفون حول حل هذه المعضلة، للإفراج عن تلك الكتب التي مولها دافعو الضرائب وصار من حق الناس أن يطلعوا عليها بدلا من إتلافها.

لكن لا يمكن إلقاء التبعة في هذا الموضوع على المثقفين فقط، بل إنها بالأساس مسئولية الدولة، التي يجب عليها أن تصنع الإجراءات وتسن القوانين التي تحمي تجارة الكتب القديمة، وليس فقط الاستجابة لضغوط أصحاب دور النشر الكبرى الذين يلعبون دورا في مطاردة هؤلاء، والتضييق عليهم، وعلي هؤلاء أن يلتزموا بالقانون، فيكفوا عن عرض الكتب المنحولة والمسروقة والمقلدة، فالإفراط في هذا يهدد صناعة النشر في بلادنا، تهديدا جارحا وبارحا.