من أولى تظاهرات المعارضة السورية.(أرشيف)
من أولى تظاهرات المعارضة السورية.(أرشيف)
الأحد 3 يونيو 2018 / 22:15

كتاب عن الصراع في سوريا وعليها

إصلاح للنظام السياسي يعني التمهيد للإطاحة به، وهذا ما تدركه النواة الصلبة للنظام. بمعنى آخر: النظام غير قابل للإصلاح، وصراعه مع المعارضة وجودي.

شغل الهولندي نيكولاس فان دام مناصب دبلوماسية في عدد من البلدان العربية ومنها سوريا، ناهيك عن مؤسسات دولية مختلفة. ويُعتبر كتابه المعنون: "الصراع على سوريا: السياسة والمجتمع في ظل الأسد وحزب البعث" الصادر قبل سنوات، من المراجع الكلاسيكية في الشأن السوري. وفي كتاب جديد، صدر بالإنجليزية في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، بعنوان: "تدمير شعب: الحرب الأهلية في سوريا" يقدّم فان دام قراءة للواقع السوري ستكتسب، على الأرجح، مكانة مرموقة بين المراجع الكلاسيكية للصراع في سورية وعليها.

وما يعنينا، في هذه العجالة، يتمثل في عدد من الأسئلة التي تشكّل العمود الفقري للكتاب الجديد، ومنها: هل كان في وسع أحد من السوريين الذين ثاروا على النظام توقّع حجم الكارثة التي ستحل بسورية البلد، والشعب، والمجتمع؟

يجيب فان دام بالنفي. فلم يخطر على بال أحد أن يكون رد النظام على هذا القدر من القسوة والوحشية، وأن تنتهي الثورة إلى ما انتهت إليه. وفي معرض التدليل على الكارثة يستعرض أعداد اللاجئين والنازحين في سورية وخارجها، وأعداد القتلى، والجرحى، والمفقودين، وما أصاب البشر والحجر من دمار، وما لحق بالمجتمع السوري نفسه من تفكك وجراح لن تندمل في وقت قريب.

وفي التعليق على هذا الدمار يقول: إن السوريين لو عرفوا النتيجة مُسبقاً لما غامروا بالثورة على النظام. بيد أن هذا لا ينفي ضرورة طرح سؤال آخر وثيق الصلة. لذا يطرح فان دام سؤالاً إضافياً: هل كانت الثورة السورية حتمية؟ وهذا ما يرد عليه بنعم، ويدلل عليه بطبيعة النظام الطائفية، ومصادرته للحريات، وممارسة ما لا يحصى من أشكال القمع والاضطهاد بالمعنى الفردي والجمعي. لذا، يقول: كانت الثورة حتمية. لم يكن ما حدث في العام 2011 أوّل صدام بين النظام ومعارضيه، فقد وقعت صدامات كثيرة، كانت أقل حجماً، منذ استيلاء الأسد الأب على السلطة قبل أربعة عقود.

وإذا جازت القراءة بأثر رجعي، والكلام لفان دام، فإن نظرة متمعنة في الطريقة التي اتبعها النظام في القضاء على أشكال مختلفة من التمرّد، كان أبرزها، مجزرة حماة في العام 1982، كانت تعني أن النظام، في عهد الأسد الابن، لن يتورّع عن تكرار التجربة نفسها في الرد على أعمال الاحتجاج التي بدأت سلمية، في العام 2011، وتعسكرت في زمن قياسي نتيجة ما جوبهت به من عنف النظام.

وفي هذا السياق، يطرح السؤال التالي: ألم يكن في وسع النظام تفادي المجابهة الدامية، وإجراء إصلاحات سياسية وبنيوية تسمح بمشاركة السلطة، وتوسيع حدود الحريات العامة، وتمتص نقمة الشارع؟ وعلى هذا السؤال يرد بالنفي. فكل  إصلاح للنظام السياسي يعني التمهيد للإطاحة به، وهذا ما تدركه النواة الصلبة للنظام. بمعنى آخر: النظام غير قابل للإصلاح، وصراعه مع المعارضة وجودي.

 ولتعميق هذه النقطة، بالذات، يستعرض فان دام تاريخ اللجنة العسكرية، التي تشكّلت من ضبّاط سوريين في مصر، في زمن الوحدة، وكان بين هؤلاء الأسد الأب. وفي السياق نفسه يستعرض القناعات الأيديولوجية لأعضاء اللجنة العسكرية، وجذورهم الطائفية، والمناطقية، والريفية، وكيف لعبت ضرورات البقاء في الحكم، بعد نجاح الانقلاب العسكري، والاستيلاء على السلطة، دوراً حاسماً في تعزيز وتكريس الهوية الطائفية للنظام، وأسهمت في توليد نخبة اجتماعية جديدة ومُهيمنة.

فعلى الرغم من حقيقة أن البعث كان معادياً، على المستوى النظري، للتحيّزات الطائفية والقبلية بوصفها من رواسب الماضي، إلا أن ضرورة الحفاظ على السلطة، وصراعات الأجنحة داخل اللجنة العسكرية، وبين الانقلابيين، استدعت الاستعانة بصلات القربى، وحصر الثقة بأشخاص ينتمون إلى طائفة أو منطقة بعينها. وقد كان هؤلاء في الغالب من العلويين.

وفي سياق كهذا خلقت ضرورات الحفاظ على السلطة آلية مزدوجة: كرّست هيمنة العلويين، وأقليات طائفية، على المؤسسة العسكرية والأمنية، ومفاصل أساسية في الدولة، وأسهمت في تقليص وجود ونفوذ السنّة السوريين في المراتب القيادية للمؤسسات نفسها، وهم الأغلبية السكانية في البلد. وهذا، بدوره، خلق حساسيات وتحيّزات فرضت نفسها على الحقل السياسي، وعلى العلاقة بين النظام ومعارضيه. العلاقة التي تكرّست، واحتقنت، وتسممت، على مدار أربعة عقود.

وعلى خلفية هذه العلاقة يمكن، والكلام لفان دام، تفسير عنف النظام، واستدراج المعارضة إلى العنف، والوقوع في هاوية الحرب الأهلية، التي سرعان ما تحوّلت إلى حرب بالوكالة بين قوى إقليمية ودولية، في سورية وعليها، وفي سياقها نجحت القوى الإسلاموية والطائفية في تهميش وعزل الوطنيين السوريين، والاستيلاء على الثورة، وإفراغها من مضمونها الوطني والديمقراطي، كما نجح النظام في تكريس الدلالة الوجودية لحرب لا مجال فيها للتفكير في المساومة أو الإصلاح: "إما الأسد أو نحرق البلد".

وبهذا المعنى، يستمد كتاب فان دام قيمته من طبيعة الأسئلة التي طرحها، وما بلور من إجابات. وبهذا، أيضاً، يحتل مكانة يستحقها في قائمة الأدبيات السياسية التي تصدّت لتحليل صراع، لم يتوقف بعد، في سورية وعليها.