من حرب 5 يونيو.(أرشيف)
من حرب 5 يونيو.(أرشيف)
الأربعاء 6 يونيو 2018 / 22:56

5 حزيران آخر

بعد الثورات، بدأت تختلف قراءة التاريخ القوميّ – العسكريّ، فتتراجع خرافة "التآمر على الأنظمة التقدّميّة" وتتقدّم حقيقة الكذب الذي نهضت فوقه "الأنظمة التقدّميّة" إيّاها. لقد كان هذا من مفاعيل الحرّيّة التي أنجبت تجرّؤاً واسعاً، لا على النظام فحسب، بل أيضاً على روايته

يوم الثلاثاء الماضي، حلّ 5 يونيو(حزيران) آخر.

هذه المرّة كانت الذكرى الـ 51 لتلك الهزيمة المزلزلة التي نزلت بمصر وسوريّا والأردن في خلال ستّة أيّام فقط. ضحيّتها الأوّل كان جمال عبد الناصر الذي ساد الاعتقاد بأنّه بطل العرب الذي سيحرّر فلسطين ويوحّد العرب. في 9 حزيران، استقال عبد الناصر وقال إنّه عائد "إلى صفوف الجماهير"، وسلّم الرئاسة إلى رفيقه في تنظيم "الضبّاط الأحرار" زكريّا محيي الدين. لكنّ عبد الناصر ما لبث أن عاد عن استقالته.

بالطبع لم يجدّ جديد على الهزيمة التي لا زلنا نئنّ تحت وطأتها ووطأة ذلّ لم ننجح في زحزحته حتّى اليوم. هذا إن لم نقل إنّنا ازددنا غطساً في وحله وفي تحمّل آثاره المتراكمة.

مع ذلك، لا تفوتنا ملاحظة التغيّر الذي طرأ على "الاحتفال" بالذكرى الحزيرانيّة منذ نشوب الثورات العربيّة قبل سبع سنوات.

ففي الأعوام التي تلت 1967 كان يطغى على تلك المناسبة التوكيدُ بأنّنا "سنقاوم" و"نقاتل"، مصحوباً بفيلم يوسف شاهين وصراخ محسنة توفيق ولطميّات أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام. وحين نشبت حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، أشاع نظاماً أنور السادات وحافظ الأسد أنّنا بالفعل نجحنا في القتال والمقاومة، ومن ثمّ في الردّ على هزيمة حزيران. هكذا استمرّت الفولكلوريّات السابقة إنّما من دون الحماسة النضاليّة التي عرفتها سنوات الضجيج في 1968 – 1973. بعد ذاك راح الاحتفال الصاخب بحرب 1973 يحجب هزيمة 1967 التي غدت أشبه بالمناسبة الميّتة التي يُقام لها قُدّاس سنويّ.

وبالفعل تحوّل "انتصار تشرين" إلى جزء عضويّ، بل مركزيّ، من إيديولوجيا النظام العسكريّ والأمنيّ في العالم العربيّ. واستمرّ هذا المدّ بلا توقّف، فعجزت عن كبحه كميّةٌ مُعتَبَرة من الانهيارات والحروب الأهليّة والنزاعات الإقليميّة الكبرى.

بعد الثورات، انشغلت عن "انتصار تشرين" الأجهزة الإيديولوجيّة للدولة الأمنيّة التي باتت معنيّة، قبل أيّ شيء آخر، بمواجهة شعوبها وكسر إرادتها. أمّا في البيئات الشعبيّة والمُستَبْعَدة، فسُحب كلّيّاً من التداول. لقد سمّى حافظ الأسد نفسه "بطل تشرين"، فكيف يحتفل ضحاياه الثائرون على نظامه بـ "انتصار" كهذا؟ وكان الوجه الآخر للانسحاب من تشرين بعث الحياة في الهزيمة الحزيرانيّة، لكنْ ليس بوصفها مناسبة للحضّ على القتال والمقاومة، كما إبّان 1968 – 1973، بل بوصفها مسرحاً لكذب سلطويّ لا يُطاق (الأسد نفسه كان حينذاك وزير الدفاع).

وسنةً بعد سنة منذ 2011، راحت تتكاثر العودات إلى ما كانت تنشره الصحافة الناصريّة وإذاعة "صوت العرب" عن الهزائم المزعومة التي قيل إنّ الإسرائيليّين تكبّدوها في 1967.

فبعد الثورات، بدأت تختلف قراءة التاريخ القوميّ – العسكريّ، فتتراجع خرافة "التآمر على الأنظمة التقدّميّة" وتتقدّم حقيقة الكذب الذي نهضت فوقه "الأنظمة التقدّميّة" إيّاها. لقد كان هذا من مفاعيل الحرّيّة التي أنجبت تجرّؤاً واسعاً، لا على النظام فحسب، بل أيضاً على روايته التي هي جزء لا يتجزّأ منه ومن آليّات سيطرته.

كذلك، وفي السياق ذاته، نُزع السحر عن هزيمة 1967 على مستوى آخر. ذاك أنّ تعبير الشعوب عن قهر أنزلته بها أنظمتها إنّما قلّص التهويل والاستثنائيّة اللذين وُصفت بهما هزيمةٌ أنزلها العدوّ الخارجيّ.

وفي منظومة الأكاذيب حلّت "المقاومة" التي انتهت نهايتها الطبيعيّة والمنطقيّة بالوقوع في يد "حزب الله" اللبنانيّ ومن ورائه إيران. هكذا راحت تخلو، في السنوات الأخيرة، استعادات 1967 مِن "سنقاوم" و"سنقاتل". لكم المقاومة، خذوها. لنا، انكشاف الأكاذيب بما فيها المقاومة.