السبت 9 يونيو 2018 / 21:06

نقل الأعضاء

في سنة 1967، كانت أنظار العالم أجمع تتجه إلى جنوب أفريقيا حيث أُجريت أول عملية زراعة قلب في تاريخ الإنسان على يد الجراح "كريستيان بارنارد"، الذي حصل على القلب من "دينيز دارفال" التي كان عمرها 24 سنة حين توفيت في حادث سيارة، كان هذا القلب من نصيب "لويس فاشكانسكي" الذي صار حديث وسائل الإعلام في كل مكان، ولم يكن هذا الحدث يقل صخباً ووقْعاً عن حادثة هبوط الإنسان على سطح القمر التي حدثت لاحقاً.

كانت أقوال "فاشكانسكي" تُسجل وتُدون وتُذاع أولاً بأول من داخل المستشفى، وصارت صوره مع صور زوجته ووالد "دينيز" متصدرة الصفحات الأولى في الصحف والمجلات، لكن للأسف لم يعش المريض وقتها سوى 18 يوماً حيث توفي بالتهاب رئوي ودُفن بجوار الفتاة التي منحته قلبها، لم يقف العلم مكتوف الأيدي جراء ما حصل ولم ينسب ما حصل إلى العمل المدفون والعين الحارقة والتميمة المُخترقة، بل أعاد الكرّة مئات المرات حتى يصحح أخطاءه، وليرتفع معدل نجاة المريض اليوم -بعد نقل القلب- إلى 90% في أول سنة و75% في أول ثلاث سنوات.

خلال ستة عقود، انتقلت جراحة نقل وزراعة الأعضاء من خانة المختبر والتجربة إلى عالم الجراحة والواقع، وخلال الثلاثين سنة الماضية حققت هذه العمليات نجاحاً جيداً بسبب تطور المضادات الحيوية والأدوية المثبطة للمناعة والتقنيات الحديثة والإجراءات الوقائية، في عام 2014 تم إجراء أكثر من 120 ألف عملية نقل وزراعة أعضاء.

يُعتبر نقل الأعضاء باكورة تطور العلوم الطبيعية، فما كانت لتتم هذه العملية لولا التقدم الذي تم إحرازه في علم المناعة والوراثة والبيولوجيا الجزئية، وقد هدفت الدراسة الدقيقة لأنسجة الجسم إلى تحقيق التسامح المناعي بين المُستقبل والعضو الذي تمت زراعته، وكنّا بحاجة إلى اكتشاف مواد مثبطة للمناعة مثل "السايكوسبورين" من أجل تحقيق ذلك التسامح ومن أجل إيقاف التفاعلات الضارة التي يمكن أن تنشأ عن هذا العضو الجديد.

عندما كنت طالباً في السنة النهائية، تدربت عند أحد أطباء الكلى في مستشفى "بومنت" في مدينة دبلن الإيرلندية، وكان يحب الشرق الأوسط ويعرف كثيراً من خباياه، فداهمني مرة بسؤال حول مشروعية نقل الكِلى في الدين الإسلامي، حيث أنه علم أنه قد حصل تأخر في مشروع نقل الأعضاء في بعض الدول بسبب العراقيل الدينية والاجتماعية، اليوم استطيع أن أخبره وبكل ثقة أننا قد فتحنا صفحة كبرى في تاريخنا -وإن كانت متأخرة- وانتصر العقل والواقع على كل من أراد كبح تمدد الحياة على حساب المرض.

في سنة 2012، توفى في الولايات المتحدة 20% من مرضى الكِلى -المُسجلين في قوائم الانتظار- وهم ينتظرون متبرعاً... ففي الوقت الذي تفكر فيه بالتبرع من عدمه؛ فإن هناك مئات المرضى على أجهزة الغسيل يقضون ما لا يقل عن ١٢ ساعة أسبوعياً وهم ينظرون إلى عقارب الساعة منتظرين من يخلصهم من سموم الجسم ويعيدهم أصحاء إلى عوائلهم وحياتهم.

بعد حلول الموت؛ ولأي سبب كان؛ سيُرسل جسدك إلى أسفل الأرض خلال ساعات معدودة، لكن بإمكانك أن تتركه فوق التراب كصدقة جارية وسارية المفعول في حياة الآخرين، لن أسرد المثاليات الصوفية التي تدعو إلى الفناء في سبيل الخير ولا قصة الشمعة التي انطفأت لتضئ لغيرها، لكن يكفينا قول الله تعالى (ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعاً).