جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية (أرشيف)
جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية (أرشيف)
الأحد 10 يونيو 2018 / 21:07

العالم تغيّر...

العالم تغيّر. وإذا كنّا لا نعرف كيف سيكون مع نهاية النصف الأوّل من هذا القرن، مثلاً، فمن المؤكد أن لحظة ما بعد الحرب الباردة، وما أنجبت من آمال، أو حتى من توقّعات بشأن نهاية التاريخ، كانت قصيرة بالمعنى الزمني، ومثقلة بأوهام وأحلام كثيرة.

عدد الجدران، في العالم، قد تضاعف أربع مرّات عمّا كان عليه الحال في أواخر العام 1989، أي لحظة انهيار جدار برلين

فمن بين ما لا يحصى من الدلالات التي اقترنت بسقوط جدار برلين، واستخلصها خبراء في الاستراتيجية والسياسة والاقتصاد أن القيمة التقليدية للحدود في تراجع، وأن مفاهيم كالدولة القومية، والسيادة، في عالم تعولم، أصبحت مُرشحة لتحوّلات غير مسبوقة توحي بفقدان ما كان لها من مركزية في زمن مضى، وبما يفتح الباب واسعاً أمام حرية انتقال البضائع والأفراد.

والواقع أن ما حدث، ويحدث، منذ بداية العشرية الثانية من هذا القرن، على الأقل، يوحي بردة فعل مضادة، يمكن التدليل عليها بصعود الشعبوية، واليمين القومي المتطرف، في بلدان الديمقراطيات الليبرالية، والعودة إلى الحروب التجارية، وسياسات الحماية، ناهيك عن عودة أجواء الحرب الباردة في أكثر من مكان.

ويمكن، في هذا السياق، إذا اكتفينا بمثل واحد، التدليل لا على عودة القيمة التقليدية للحدود وحسب، بل وعلى حقيقة أنها تعود بطريقة غير مسبوقة، أيضاً، وتتجلى في بناء جدران بالمعنى الفعلي للكلمة على الحد الفاصل بين دول، أو بين جماعات قومية مُختلفة.

ففي عالم اليوم تبني 65 دولة، أو هي في طور بناء، جدران على حدودها. ولا يقتصر هذا الأمر منطقة بعينها، بل يمكن العثور عليه في آسيا، وأفريقيا، وأوروبا، وأمريكا الشمالية واللاتينية. وآخر ما تداولته الأنباء في هذا الشأن انتهاء الأتراك من بناء جدار على حدودهم مع سوريا، وقرب الانتهاء من بناء جدار آخر مع إيران.

هناك، بطبيعة الحال، الجدار بين الولايات المتحدة والمكسيك، الذي يحظى بتغطية إعلامية واسعة هذه الأيام. وفي أوروبا نفسها تبني هنغاريا جداراً يرتفع أربعة أمتار على طول حدودها مع صربيا، بينما يبني الهنود جداراً من الأسلاك الشائكة يمتد على مسافة آلاف الكيلومترات على الحدود مع بنغلاديش.

وينبغي ألا نُسقط من الحسبان جدار الفصل الذي بناه الإسرائيليون في الضفة الغربية المحتلة لتطويق وتقطيع أوصال التجمعات الديمغرافية الفلسطينية من جهة، وربط التجمعات الاستيطانية اليهودية هناك بالتجمعات السكانية داخل الدولة الإسرائيلية من جهة ثانية، ناهيك عن تمكين المراكز الاستيطانية نفسها من التوسع وحرية الحركة على حساب الفلسطينيين.

على أي حال، يرى الخبراء أن عدد الجدران، في العالم، قد تضاعف أربع مرات عما كان عليه الحال في أواخر 1989، أي لحظة انهيار جدار برلين. ولا يبدو من قبيل المجازفة القول إن مستقبل الاتحاد الأوروبي، الذي زالت الحدود بين بلدانه، غير مضمون بعد خروج بريطانيا، وفي حال صعود اليمين القومي، الداعي إلى عودة الحدود، والخروج من الاتحاد، ونجاحه في الوصول إلى سدة الحكم.

بمعنى آخر: لا تقتصر العودة إلى الحدود التقليدية على منطقة بعينها، بل تشمل العالم، ولا تُقدم عليها أنظمة دون غيرها، بل تغطي مروحة واسعة من أنظمة الحكم، بل ويجد هذا كله تبريره الأيديولوجي في أوساط اليمين القومي الأميركي والأوروبي، الذي اكتشف أن "العالم يحتاج الحدود"، والعبارة لستيف بانون، كبير مستشاري ترامب سابقاً، وأحد منظري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة، والذي يمثل، أيضاً، مصدر إلهام لليمين الأوروبي.

لا يمكن فصل اكتشاف من نوع أن "العالم يحتاج الحدود" عن ظاهرة الإرهاب، التي تضرب في مناطق مختلفة من العالم، ولا عن الهجرة من مناطق تشتعل فيها حروب أهلية إلى مناطق آمنة، ولا عن الهجرة لأسباب اقتصادية، أو تجارة المخدرات، واقتصاد التهريب، والسوق السوداء.

ومع ذلك، ثمة ما يبرر التساؤل: هل الجدران هي الحل المثالي لمشاكل كهذه؟ ألا توجد خيارات بديلة للتعامل مع الظواهر السابقة؟ وهل يمكن التنبؤ، مسبقاً، بما سيترتب على سياسة الجدران من تداعيات اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، بعيدة المدى؟ لا توجد إجابات قاطعة، حتى الآن.

وبقدر ما يتعلق الأمر بخبراء في قضايا الأمن والهجرة، فإن الجدران لا تمثل حلاً جذرياً، فقيمتها الرمزية تفوق قيمتها الفعلية على الأرض. ويبقى أن الجواب الأكثر وضوحاً يتجلى في حقيقة أن لحظة ما بعد الحرب الباردة كانت قصيرة، تخللتها أوهام وأحلام كثيرة، وأن العالم تغيّر.