الفيلسوف اليوناني أفلاطون (أرشيف)
الفيلسوف اليوناني أفلاطون (أرشيف)
الأربعاء 13 يونيو 2018 / 21:21

الأخلاق الأفلاطونية

يجوز النظر إلى مُحاورة "الجمهورية"، لأفلاطون، نظرة المفكر المصري الراحل فؤاد زكريا الذي ترجمها إلى العربية، وقام بدراستها. مُحاورة أفلاطون حول نظام الدولة، ليستْ مقصودة لذاتها، وإنما هي نموذج مُكبر للمجال الفردي، أي أن السياسة مجرد مثل يوضِّح ما ينبغي أن تكون عليه الأخلاق.

أفلاطون كان متأثراً بذلك الاتجاه العام في الأخلاق اليونانية، الذي يقوم على تأكيد فكرة "السعادة" بوصفها غاية السلوك الإنساني، وإلى تجاهل فكرة "الواجب" بوصفها قطباً آخر يُمكن أن تنجذب إليه أفعال الشر

فالفرد مثل الدولة، ليس وحدة متجانسة، وإنما هو مُركَّب معقد، ينطوي على أجزاء، مثلما تنطوي الدولة على طبقات. يحرص أفلاطون على الفصل بين أجزاء النفس، مثلما يحرص على الفصل بين طبقات الدولة. فالنفس عنده كثرة، وليست وحدة.

لكن تقسيم النفس إلى أجزاء، والدولة إلى طبقات، لا يمنع أفلاطون من القول بفكرة الانسجام، وهي فكرة لا تتم إلا تحت طائل القوة التي تمزج أجزاء النفس المتنافرة، والقوة هنا عاقلة، ولا بد أن تكون لها الغلبة على الاندفاع والغضب والتحمس الإنساني.

إن فكرة الانسجام التي هي من أسس المذهب الأخلاقي عند أفلاطون، تُعتبر فكرة غامضة إلى حد بعيد، لأن أفلاطون لم يبذل جهداً في توضيح ما يعنيه بالانسجام، هل هو مثلاً تحقيق كل ملكات النفس بصورة متآلفة؟ أم تحقيق الأرفع منها على حساب الأدنى؟ هل يستعين حُكَّام الدولة من الفلاسفة، بالجند والحرس في إخضاع عامة الشعب، وإرغامه على التزام الحدود؟ كان أفلاطون يفترض أن الفلاسفة سيكون لهم دور رئيس في الحكم، وهو افتراض ساذج، لا يضارعة سوى سذاجة دون كيخوته، افتراض ساذج ونبيل في آن. في ثلاثينيات القرن الماضي، وقف الفيلسوف الألماني الشهير مارتن هيدغر مع النازية، وفي أواخر سبعينيات القرن الماضي أيضاً، وقف الفيلسوف الفرنسي الأشهر ميشيل فوكو مع الثورة الإيرانية، التي قتلتْ الألوف المؤلفة، لتحقيق ولاية الفقيه المتطرفة.
  
اعتذر هيدغر، واعتذر فوكو، لكن صفعة الواقع ما زالتْ معلمة على قفا الفلسفة. قفا الفلسفة وردي، حليق، رقيق الجلد. وكف الواقع سميك الجلد، مشقق ككعب قدم. طاخ، طراخ. الصوت سمعناه وإحنا قاعدين في بيتنا.

من المعروف أن أفلاطون كان من أعظم المدافعين عن موضوعية القيم، أي عن الرأي القائل بأن أحكام الناس فيما هو خير أو شر، وفيما هو صواب أو خطأ، وفيما هو جميل أو قبيح، ينبغي ألا يخضع لمقاييس متغيرة مثل الأذواق الفردية، أو التجارب الذاتية، أو الآراء الشخصية، وإنما الواجب أن تكون المقاييس التي تخضع لها هذه الأحكام ذات طابع أشمل، لا يخضع للتغير أو التطور، ولا يعترف بالكثرة أو الاختلاف.

ولعل الأمر الذي حال بين أفلاطون وبين وضع مذهب أخلاقي مطلق، بالمعنى الكامل للكلمة، مثل مذهب كانط في العصر الحديث، هو أن أفلاطون كان متأثراً بذلك الاتجاه العام في الأخلاق اليونانية، الذي يقوم على تأكيد فكرة "السعادة" بوصفها غاية السلوك الإنساني، وإلى تجاهل فكرة "الواجب" بوصفها قطباً آخر يُمكن أن تنجذب إليه أفعال الشر.

ورغم أن الأخلاق عند أفلاطون كانت أخلاقاً غائية، فإن بوادر الأخلاق المطلقة تظهر لديه من آن لآخر. ففي مطلع الكتاب الثاني من "الجمهورية"، نراه يُصنف الأشياء الخيرة إلى أشياء تُطلب لذاتها، بصرف النظر عن نتائجها، وأخرى تُطلب لذاتها ولنتائجها معاً، وثالثة تُطلب لنتائجها فقط. فضَّل أفلاطون الفئة الأولى على الثالثة، لكنه مع ذلك، كان متمشياً مع الاتجاه العام للتفكير الأخلاقي اليوناني، فجعل الفئة الثانية أرفع من الفئة الأولى والثالثة.

كثير من الباحثين، حاولوا أن يتجاوزوا نطاق الغايات المباشرة عند أفلاطون، كاللذة والشرف والتكريم والمال، ليصلوا إلى المبدأ الكامن من ورائها، وهو مبدأ عقلي يعلو على كل الأمثلة الجزئية للخير. فإذا كانت كل الغايات المباشرة تستمد قيمتها من هذا المبدأ الواحد، فإن هذا المبدأ الواحد، لا يستمد قيمته إلا من ذاته. بعبارة أخرى كان أفلاطون أول مَنْ أدرك أن فلسفة الأخلاق في صورتها النهائية، ينبغي أن تتجاوز ذاتها، لتتخذ لنفسها أساساً من مثلٍ أعلى نهائي، تستمد منه الغايات الأخلاقية قيمتها، بل تستمد منه المفاهيم الأخلاقية معناها.

أكد أفلاطون أن المبدأ الواحد المتحكم في الأخلاق، لا يُفهم إلا بعد تدريب طويل للعقل على التفكير المجرد، ومن هنا كان تأييد أفلاطون لصعوبة التحول من عالَم الجزئيات إلى عالَم المبدأ الواحد، واستحالة معاينة "شمس العقل"، دفعة واحدة، وضرورة الانتقال التدريجي نحو النور.

إن حياة الفيلسوف، والفيلسوف عند أفلاطون هو الحكيم، أي من نال الأخلاق جميعاً، مُوَجهة نحو الموت، وحياة الإنسان على حد تعبير أستاذه سقراط: مُمارسة للموت.