السبت 16 يونيو 2018 / 21:19

جمر وأشواك حادة في طريق الشعراء العرب

حين يذهب شاعر بديوان فرغ للتو من إبداعه ومراجعته وتنقيحه وتشذيبه إلى دار نشر خاصة، وهو يحدوه بعض أمل في أن يجد نافذة، ولو ضيقة ليطل منها النور على قصائده، لا يجد أمامه سوى الاعتذار عن عدم النشر. يقول له الناشر بملء فيه: لا. وحين يسأله عن السبب يجيب في ثقة تامة: "دواوين الشعر لا تباع، وأصحاب المكتبات المختصة ببيع الكتب ترفضها، لأنها تحتل أماكن أولى بها روايات أو كتب في التنمية البشرية أو السياسة أو الدين أو العلم أو المعارف العامة، يقبل عليها القراء".

بالطبع هناك استثناءات تؤكد القاعدة، لكن عدد الشعراء العرب، ممن هم على قيد الحياة، الذين يطمئن الناشرون إلى توزيع دواوينهم قليل، ويتراجع بمرور الأيام، بشكل يهدد حال ومآل هذا اللون الأدبي الأكثر جمالا، بما ينطوي عليه من مجازات وخيالات ومفارقات وتكثيف وتحليق وعمق وحلم وتجاوز وتصفية وتخلية.

قبل ثلاثين عاما ظل الكاتب المصري الكبير أنيس منصور ينشر سلسلة مقالات أسبوعية في صحيفة "أخبار اليوم"، واسعة الانتشار أيامها، كان يحتل صفحة كاملة تحت عنوان "أنتم الناس أيها الشعراء"، يخصصه كل مرة لشاعر، فيتناول حياته ونماذج من شعره، وكان المقال مقروءا من مختلف الأوساط. وقبل هذا بنصف قرن كان يمكن زيادة توزيع صحيفة لأنها تنشر قصيدة جديدة لأحمد شوقي أو حافظ إبراهيم، وكانت مجلدات كتاب الأغاني للأصفهاني تباع بإفراط، ويتسابق على اقتنائها كثيرون، ناهيك عن برامج إذاعية للشعر، ينصت إليها الناس في كل مكان. وذات يوم كان الكاتب المصري الكبير مصطفى أمين يمضي بسيارته على جسر في ريف الدلتا فوجد فلاحا يجر جاموسته وهو ينشد قصيدة "سلوا قلبي" التي غنتها سيدة الغناء العربي أم كلثوم، وكان كثير من الناس يروق لهم غناؤها لقصائد، قديمة وجديدة، أكثر من أغاني مكتوبة بالعامية المصرية.

راح هذا الزمن لنجد شاعرا مصريا مبدعا هو فتحي عبد السميع يرثي موقعا على شبكة الإنترنت أنشأه الشاعر البحريني الكبير قاسم حداد باسم "جهة الشعر" بعد أن أضطر إلى إغلاقه لضيق ذات اليد، فها هو عبد السميع يقول في سطور تقطر ألما: "تلقيت ببالغ الحزن والمرارة والغضب نبأ إغلاق موقع (جهة الشعر) لعدم توفر الدعم المالي .النبأ صاعق، لأن الموقع كأن أرخص مؤسسة ثقافية من حيث التكلفة، وأثمن مؤسسة من حيث العطاء، و كان نموذجا فريدا للعمل الثقافي الذي تخلّص من الأمراض العربية، فلم ينغلق على شلة، ولم يتعصب لمكان، ولم يفرط في الجدية والموضوعية والإخلاص لرسالته. لقد راح الموقع ينمو خلال أكثر من عشرين عاما من العمل، وصار صرحا شعريا هائلا، كمَّا وكيفا، ونجح في لم شتات الشعراء العرب كما لم ينجح مكان آخر، كما نجح في أن يكون نافذة حية على المشهد الشعري العالمي."

صار إبداع الشعر هما ثقيلا على نفوس الشعراء، فها هو الشاعر الكبير عبد المنعم رمضان يصدر ديوانه "الهائم في البرية" بعد أن "هرب منه الشعر عشر سنوات" ثم يقول: "أتمنى أن يكون هذا الديوان افعا إلى أن يعود إلي الشعر، وإن كنت لا أعتقد ذلك". انهمك رمضان في كتابة مقالات في السنوات الأخيرة، بينما أخذ بعض كبار الشعراء ينسلون تباعا من دنيا الشعر العامرة بالصور والمعاني ويدلفون سريعا إلى عالم الرواية، مستجيبين لتلك اللافتة التي رفعها الناقد المصري الكبير الدكتور جابر عصفور وكتب عليها: "زمن الرواية"، وبعض هؤلاء انسال شعرهم في سردهم، عبر الكلمات، أو القدرة على رسم الصور، وإطلاق الأخيلات المجنحة، أو العثور على أفكار مبتكرة لحكاياتهم، وبعضهم كأنه أراد أن يبرهن على أنه قادر على الإتيان بسرد عرم، مخلصا للحكاية لا للقصيدة، فتخفف من لغة الشعر على قدر استطاعته، وشكل هذا ظاهرة لافتة جعلت هناك من يتحدث عن "مواسم الهروب من الشعر" أو "هجرة الشعراء من ضيق القصيدة إلى براح الرواية".

كان بعض هؤلاء ينصت جيدا لتلك المناظرة القديمة التي قامت بين عباس محمود العقاد ونجيب محفوظ، فالأول، الذي لم يكتب سوى رواية واحدة هي "سارة" وحوت عبقرياته بعض السرد مختلطا بالبرهان، كان يقول، وهو من لم يكف عن كتابة الشعر، إن "الرواية تشبه شجرة الدوم، قنطار خشب ودرهم حلاوة"، ورد عليه الثاني، الذي كان يبني على مهل الأعمدة والأرضية والمداميك الأساسية للرواية العربية، قائلا: "الرواية هي شعر الدنيا الحديثة".

لا تحتاج إلى بذل أي جهد لتتأكد من غياب الشعر أو تغييبه وأنت تطالع أرفف مكتبات بيع الكتب، أو تمرر عينيك على فرشات الكتب التي يطرحها بائعو الصحف والكتب على أرصفة الشوارع. ويزداد يقينك بما عرفت حين تضع طرف إصبعه وتمرره على مسرد كتب أعدته أي من دور النشر عما أنتجته طيلة العام.

لكن هذا لا يخفي ظاهرة عجيبة غريبة رأيناها في كل معرض للكتاب نظمته القاهرة، حين نجد زحاما من شباب صغار على شاعر شاب أصدر ديوانا للتو، كي يحصلوا على توقيعه الكريم على أول صفحة في ديوانه، أو بمعنى أدق ما يسميه "ديوان شعر" أو ما يتراءى للشارين أو المبتاعين أنه كذلك. لكنك حين تلتقط الكتاب الذي يتزاحم هؤلاء عليه وتتصفحه، يصيبك غم شديد، وغضب كبير، لأن المكتوب ليس شعرا، إنما أغاني ركيكة، كتبت على عجل لقراء لم يشحنوا وجدانهم، ويشحذوا أذهانهم، بقصائد حقيقية تجعلهم قادرين على التمييز بين أولياء الشعر وأدعيائه. كل مرة يظهر واحد، حاملا لقب شاعر بكتاب أغاني بسيطة وحيد، ثم لا يلبث أن يختفي مفسحا الطريق أمام مدع آخر في عام لاحق.

لكن الشعراء الحقيقيين لا يكفون عن الإبداع، لاهثين وراء مجلات ودوريات ثقافية لا يمكنها نشر كل ما يصل إليها، حتى لو كان جيدا، وإلى دور النشر الحكومية التي باتت تنشر الشعر على سبيل الصدقة، أو الواجب، أو استجابة لإرادة بعض القائمين عليها، ممن يعنيهم حفظ هذا النوع الأدبي، حتى لا يلحق بالمسرحية المكتوبة، التي تكاد تختفي، بعد أن كان هناك من يقبل على قراءتها، ولا يعنيه أن يراها مؤداة على أي من مسارح الدولة أو القطاع الخاص.

تبقى بعض المسابقات الشعرية صانعة "طوق نجاة" لاسيما إن كان عائدها جيدا، ولا ضير في هذا، فالرواية نفسها، التي تتسيد الآن، حازت جزءا هائلا من تسيدها هذا بفعل الجوائز السخية التي خُصصت لها، وهي مسألة لا تخصنا نحن العرب فقط، بل في كل مكان يكون للنوع الأدبي عائد مجز يقبل الكتاب عليه فينتعش، ويترسخ حضوره، والمثال على ذلك أنه حين ظهرت دوريات ومجلات غزيرة في أوروبا تنشر القصص القصيرة وتدفع للكتاب مكافآت سخية لقاء نشرها، أقبل المبدعون على هذا الفن فراج وماج، واستغلظ على سوقه.

لقد كتب الناقد الكبير تزفيتان تودورف كتابه الأثير "الأدب في خطر" محذرا من انصراف الناس عن الأدب تباعا إن لم يعبر عن أشواقهم ورغباتهم وسعيهم إلى المعرفة وفهم الذات والمجتمع والعالم والوجود، وربما يعبر عن مصالحهم أيضا، والآن بوسعنا أن نقول دون مواربة "الشعر العربي في خطر"، ولا أعرف إلى من نلقى بتبعة هذا، على شعراء يتهمهم قراء بالغموض الشديد، أم على قراء لم يجدوا نظام تعليم وتثقيف يعلمهم كيف يتعاطون القصائد الناضجة، ويفرقون في دنيا القصائد بين الغث والسمين.