الكاتب المصري ألبير قصيري (1913- 2008)
الكاتب المصري ألبير قصيري (1913- 2008)
الأربعاء 20 يونيو 2018 / 19:30

ألبير قصيري وأشياء أخرى

العبور المادي قد يعني الموت، وهو عبور ينسف المسافة بين الحلم والواقع، وكأن المسافة لم تكن، بل سيتعذَّر حينئذ الدليل على أن هناك عبوراً حدث بالفعل

تذكَّرتُ أثناء الغداء موقفاً كان منذ ما يزيد عن العشرين سنة. لم تكن الذكرى غارقة في النسيان تماماً، ولم يحدث فيها شيء درامي يستحق الذكر، فقد كنتُ فيها على متن قطار أقرأ في كتاب لتخفيف زمن الرحلة، ولم يكن الكتاب يعني لي شيئاً، وفجأة، وليس بدافع الشرود والملل وحدهما، نظرتُ إلى خارج نافذة القطار، كأنَّ هناك شيئاً يفوتني. طالتْ النظرة على الجريان العكسي للأشجار والبيوت ثم هدأتْ المُفاجأة، وكأنَّ هناك خطأ في الحواس، وكأنَّ المُفاجأة كانت تقصد حاسة السمع، لكن ليس تحديداً سماع صوت العجلات الحديدية على القضبان. كنتُ واثقاً هذه المرة، سماع شيء آخر. غرقتُ في التفكير، فبدتْ المُفاجأة أنها كانت تتعلق بشيء يقع بين حاستي السمع والنظر. بصعوبة ميَّزتُ ملمحاً من ملامح هذا الشيء، وكان هذا الملمح يتعلق بالمستقبل، بالموت ربما. والآن وأنا أفصل شوكة عن لحم سمكة البوري، سقط نفس الشيء فجأة بين حاستي السمع والنظر، والفارق الوحيد أن ملمحاً منه كان يتعلق بالماضي.

رأيتُ بالصدفة لقطات من فيلم تسجيلي عن الكاتب المصري الراحل ألبير قصيري. الفيلم قبل موته بثلاث سنوات. كان عمره في زمن الفيلم واحد وتسعين عاماً. اللقطات بسيطة. ألبير يعبر شارعاً للوصول إلى حديقة عامة. يجلس على كرسي. يعود إلى غرفته المتواضعة في بنسيون. المؤثر في الفيلم طغيان الزمن على جسم ألبير، فهو ضئيل ومنكمش، وكأنّ انكماش الجسم، هو فاتورة الواحد والتسعون عاماً، وكأنّ الزمن لن يحفظ سمعته إلا بهذا الطغيان. في المقابل يستسلم ألبير، ويبدو وهو يخطو على أرض الشارع، وكأنه يدوس على لوح من الزجاج عُرضة للكسر، وحتى إذا كانت الأرض من زجاج، فوزن جسمه الذي لا يتعدى الخمسة والأربعين كيلو غراماً، لا قِبَل له بكسر الزجاج. فكَّرتُ أنه عند عمر معين أحياناً، تتم المُساوَمَة المُهينة بين عجوز وزمن، لكَ الطغيان ولي الاستسلام.

في حلم رأيتُ ساحة كبيرة يجتمع فيها ناس كثيرون على شكل مجموعات مُتفرقة. كان الحديث بينهم على أشده. وكان ينتقل أحدهم أحياناً من مجموعته إلى مجموعة أخرى، وعلى الرغم من أن موضوعات الحديث لم تكن واحدة إلا أن مَنْ ترك مجموعته هو أول مَنْ يبادر بالحديث في المجموعة الجديدة، وكأنه معهم منذ بداية حديثهم، لكنه يقول كلمة أو كلمتين من موضوع سابق، كتعليق قصير لن يستغرق أكثر من دقيقة، ثم يندمج معهم في موضوع جديد، وهو يرفع يده بإشارة إلى مجموعته القديمة التي لا تبعد عنه سوى أمتار. كانت الإشارة تعني اليأس المؤقت من موضوع بعينه، والرغبة في موضوع آخر. وكان زمن اليأس المؤقت للمُتنقلين بين المجموعات لا يستغرق أكثر من دقيقتين. وكان بعضهم يعود إلى مجموعته القديمة ويتركها مراراً. وكان هناك أيضاً مَنْ لا يترك مجموعته، وهو دائم الصمت، يحتفظ في عقله بخيوط الموضوعات والأحاديث جميعاً.

اليوم قمت من النوم بشعور مختلف عن الأيام السابقة، ولم أكن على يقين أنني جرَّبتُ هذا الشعور قبل ذلك، وهو شعور بيأس سميك لا أمل في جداره، ومن هنا كان الارتياح في الوقوف أمام جدار، الوقوف فقط دون أدني رغبة في تسلقه، أو تأمله، أو انتظار شيء يأتي من ورائه. إنني أقف فقط هنا أمام الجدار دون سبب واضح، كما أنه لا يعنيني السؤال عن السبب، وكيف يكون السؤال إذا كان الجدار غير موجود في مكان بعينه، إنه شعور قمت به من النوم، وكانت كلمة جدار أقرب كلمة لضرورة الفصل بين مكان خلف الجدار، ومكان أمامه، وبالصدفة أنا هنا أمام الجدار، أي أن ضرورة الفصل بين مكانين بجدار لم يضع القائم عليها، لصدفة وجودي هنا أمام الجدار، أي اعتبار، ولن تكتسب تلك الصدفة معنى ما، سواء بقيت هنا أو ذهبت.

في حلم كنتُ مع أشخاص أعرفهم، لكن كل الاحتمالات في أن يعرف بعضهم بعضاً كانت مستحيلة، والاستحالة كانت مثيرة لي بعد اليقظة، وليس أثناء الحلم. منهم مَنْ مات قبل ولادة الآخر. بقيتُ ساعة أبحث عن مبرر ولو مُفتعل لهذا الجمع. كان المكان في الحلم بيتاً قديماً تركته منذ عشرين سنة. وكانت العلامة الوحيدة التي عرفتُ منها البيت القديم، هي الصورة الفوتوغرافية المُعلَّقة على الحائط. قال لي واحد من الجمع بصيغة اتهام بوليسي لا يعرف الغرض منه: أنتَ تحمل نسخة مُصغَّرة من الصورة في محفظتك: قلتُ له: نعم هذا والدي. قال وهو يضع ساقاً على ساق: أراهن أنها ليست معك الآن. حاولتُ أن أخرج له الصورة، فصرخ وهو يعوق يدي عن إخراج المحفظة من جيب البنطلون الخلفي: لا هذا غير ممكن، هذا اعتداء على الزمن، هذا مستحيل.

لا يختلف أحد على أن هناك مسافة بين الحلم والواقع، لكن قل لأحد آخر من باب التغيير، واترك الأحد الذي لا يختلف معك في وجود المسافة بين الحلم والواقع: صف لي تلك المسافة. وهنا تحدث جلطة في التعبير، ويكتفي الأحد الثاني بالتأكيد على أن هناك مسافة بين الحلم والواقع، لكن لا بد من فسحة زمن حتى يجد التعبير المُناسب، فيتدخَّل الأحد الأول بعد أن أخذ زمناً في التفكير، ويؤكد على كلام الأحد الثاني، وهو يشير ناحيته مضيفاً أن التعبير لن يتم إلا بالعبور، مشدداً على أنه يقصد بالعبور عبوراً مادياً، من الحلم إلى الواقع أو العكس. يعترض الأحد الثاني قائلاً: العبور المادي قد يعني الموت، وهو عبور ينسف المسافة بين الحلم والواقع، وكأن المسافة لم تكن، بل سيتعذَّر حينئذ الدليل على أن هناك عبوراً حدث بالفعل.