مكبرات صوت دعائية على الحدود بين الكوريتين (أف ب)
مكبرات صوت دعائية على الحدود بين الكوريتين (أف ب)
الأربعاء 27 يونيو 2018 / 20:31

... إنّها تربية سيئة

قد يكون التعريف الأفضل لتربية الأطفال أنّها تأسيس قيم وثوابت أخلاقيّة فيهم، فضلاً عن إعدادهم على نحو أفضل لمواجهة مستقبلهم.

الأنظمة المستبدّة لا تكتفي بمعاملة شعوبها كأنّها أطفال. إنّها، فوق هذا، تربّيهم تربية سيّئة جدّاً، تربيةً لا تؤسّس فيهم قيماً صلبة ولا تمكّنهم من مواجهة المستقبل

ما من شك في أن الشعوب ليست أطفالاً يُراد تربيتها كما يُربّى الصغار في بيوت أهلهم. لكن الأنظمة المستبدة، لا سيما منها التوتاليتارية، تفعل ذلك: إنّها تفرض على شعوبها نظرتها العقائديّة إلى العالم، وتعكس ذلك في البرامج المدرسيّة وكتب التعليم. وهي تحتكر أدوات المعرفة والإعلام، بمصادرتها الكتب والصحف التي لا ترى رأيها، بحيث تتولّى الإيديولوجيا الرسميّة المهيمنة بالقوّة صنع المواطنين وعقولهم.

وأخيراً، تستخدم مع مواطنيها نظام العقوبات والمكافآت الذي يطبقه بعض الأهل مع أبنائهم: فإذا تقيدوا بالتعاليم الرسمية، أي إذا درسوا جيداً، كوفئوا بالوظائف والامتيازات، وإذا خالفوا تلك التعاليم، أو اجتهدوا وفكروا على نحو مستقل، أي إذا لم يدرسوا جيداً، عوقبوا بالسجن والإيداع في مصحات عقلية، وربما بالقتل.

لكن الأنظمة المستبدة لا تكتفي بمعاملة شعوبها كأنها أطفال. إنها، فوق هذا، تربيهم تربية سيئة جداً، تربيةً لا تؤسس فيهم قيماً صلبة ولا تمكنهم من مواجهة المستقبل.

هناك اليوم مثلٌ صارخ على ذلك، لاحظه الصحافيون الغربيون الذين زاروا كوريا الشماليّة أخيراً. ففجأةً، وفي مناخ القمتين اللتين شهدهما العام الجاري بين زعيم كوريا الشماليّة ورئيسي كوريا الجنوبيّة والولايات المتحدة الأمريكيّة، تغير كلّ شيء تقريباً 180 درجة.

"المعرفة" التي كانت صالحة قبل أشهر صارت ضارة اليوم، يُعاقَب من يقول بها، فيما "المعرفة" التي بات يُعمَل بها اليوم هي التي كانت ضارة، بل خيانية، قبل أشهر.

فالدعاية الرسمية، الملصقات والصور والصحف، مما ينتشر في العاصمة وباقي المدن انتقلت كلها من التركيز على الصراع بلا هوادة مع الإمبريالية الأمريكية وعميلتها الكورية الجنوبية إلى التعاون لبناء السلام معهما من أجل إحداث تقدم اقتصادي وابتكارات علمية تفيد الإنسانيّة جمعاء.

ما من شك في أن "الطفل" الكوري الشمالي الذي تعرض لهذا التحول السريع والمتطرف لن تفضي "تربيته" هذه إلى شخص متماسك حول قيم وثوابت. فإذا أضفنا عزلة كوريا الشمالية، والتي تحول بينها وبين التطورات الفكريّة والعلمية في الخارج، أدركنا قصور هذا "الطفل" الذي يربيه نظام الزعيم كيم، الذي ورث أباه وجده، وضعف إعداده وتمكينه.

وهذا ما يفسر حالة تتكرر في أنظمة الرأي الواحد والعشوائي، هي أن الفرد المختلف الذي لا يتسنى له الهروب إلى الخارج، يعتصم بسلوك يجمع السينيكية والخبث إلى الانتهازية والكذب. ذاك أن مزيجاً سلوكياً كهذا هو الذي يمد له حبل النجاة والبقاء وسط علاقات موبوءة كهذه.

ما تشهده كوريا الشمالية اليوم ليس فريداً. فقد سبق أن عرفته أنظمة ذات تركيب مشابه: مثلاً، إبان الحرب العالميّة الثانية نشأ تحالف سوفييتي ألماني قبل أن ينقلب إلى عداوة وحرب ضروسين. وفي غضون أشهر، تغيرت نوعياً في الإعلام والدعاية الشيوعيبن والنازيين صورتا هتلر وستالين.

وحين قرر ماو تسي تونغ أن يشن "الثورة الثقافية" في الستينات، ليزيح خصومه ومنافسيه على رأس السلطة الصينية، تحول ملايين الحزبيين والموظفين، في غضون أيام، من "خدم الشعب المؤتمنين على الثورة" إلى "عملاء الامبريالية والطريق الرأسمالي".

وفي أواخر السبعينات، حين زعم صدام حسين وحافظ الأسد أنهما سيقيمان الوحدة بين بلديهما، استعاد كلّ منهما كلمة "رفيق" في وصف الآخر. لكن أسابيع قليلة كانت كافية لأن تنقلب تلك الكلمة إلى "خائن" و"مشبوه".

أما المواطن "الطفل" فعليه دائماً أن يصدق ويردد.