تعبيرية.(أرشيف)
تعبيرية.(أرشيف)
الجمعة 29 يونيو 2018 / 19:14

لا وقت للنوم

قبل أن أضحك تعجّباً، وأخبرها أن الوقت لم يحن سوى لنيلها قسطاً من الراحة، تذكّرت فجأة وعدها المحموم لي؛ وعدها بأن تنشر كتابها الأول قبل عمر الـ30!

أعتذر بأني أفسدت عليكم عطلة نهاية الأسبوع المنصرم حين حرمتكم من المقال الذي تنتظرونه على أحر من الجمر، وأشكر الآلاف منكم الذين لم يطالبوني بتفسير مقنع، ولم يلحظوا شيئاً أصلاً. في الواقع، إن الظروف الشخصية التي اعترضتني كانت قد تركت لي بعض الوقت للكتابة، ولكني فضّلت أن أغط في نوم عميق.

ليس كسلاً والله، بل حاصرني خوف حقيقي من يوم لا يعود فيه النوم خياراً متاحاً.
فقد تذكرت ذلك الشتاء القارس الذي سافرت خلاله لأحل في ضيافة صديقتي. كانت فتاة في الـ28 من عمرها آنذاك، أي تكبرني ببضعة سنوات، وقد وحّدنا حب الكتابة رغماً عن تنافر لهجتينا، وتباعد جذورنا، وزهوي ببكالوريوس الإعلام فيما كان قلبها يحمل غلاً على كلية التجارة.

وعلى النقيض من حالة الـ "الله أعلم" التي أحياها، كانت كاتبة حازمة جادة، تعكف منذ عامين على تأليف كتاب تتحفظ على محتواه، وتهذي في نفس الوقت بكل تفاصيله. لقد بدت امرأة حديدية. مارغريت ثاتشر من نوع آخر، من نوع يرفض التفاوض مع الإرهابي الأبرز في حياة كل منا: التقاعس.
ولهذا لم أتخيّل أن توقظني بصوت نواحها عبر الهاتف.

"لقد فقدت صوابي. لقد فقدت صوابي. خرجت لتناول الإفطار مع شقيقتي، ثم حدث بيننا سوء فهم بسيط. لا أدري كيف، ولماذا، ولكني مددت ذراعي عبر الطاولة وخنقتها. خنقتها حتى هرع النادل لفض اشتباكنا".

مرّت السويعات التالية كالكابوس منذ قفزت من سريري، وحتى اقتدتها إلى المستشفى. قال الأطباء إنه قد طغى عليها ذلك البحر الهائج في أعماقها من الاكتئاب، والقلق، واضطراب ما بعد الصدمة، وستحتاج الآن إلى ابتلاع ضعف جرعتها اليومية من الدواء.

جلست بجانبها فيما راحت تستسلم لمفعول الحبة الوردية المخصصة لنوبات الهلع. ثقل جفناها، وسقط رأسها على كتفها.
"احضري حاسوبي المحمول"، همست بصوت يكاد ألا يُسمع. "سأكتب، فالوقت يداهمني".

وقبل أن أضحك تعجّباً، وأخبرها أن الوقت لم يحن سوى لنيلها قسطاً من الراحة، تذكّرت فجأة وعدها المحموم لي؛ وعدها بأن تنشر كتابها الأول قبل عمر الـ30!

في نومها المُتعب، لقد أيقظت هذه الصديقة في داخلي قناعة راسخة بأن أحداً منا لا يستحق الدوران في دوامة الجنون هذه، والتي تتسلى بقتلنا قبل أن تجف عشريناتنا. إنها تصدح في آذاننا بإنجاز مارك زوكربيرغ حين أوجد "فيس بوك"، وستيف جوبز حين أسس "آبل"، وحتى بفوز جينيفر لورنس بالأوسكار، وبقصص كل أولئك الذين لم ينتظروا ثلاثينياتهم -والتي تُصوّر لنا كأولى مراحل فوات الأوان- للنجاح.

وإن لم نتقفّ آثارهم، فنحن فاشلون، خائبون، منعدمو الموهبة والإمكانات، وقُدّر لنا أن ننفخ في كل عام على شمعة من تضاءل الفرص.
مجدداً، اعذروني إذا كنت قد اخترت الكسل بملء إرادتي، فقد جثم على صدري السؤال الحقير، "هل خُلق أمثالي للنجاح أصلاً؟"