مقهى الكوستا في شارع الحمرا في بيروت.(أرشيف)
مقهى الكوستا في شارع الحمرا في بيروت.(أرشيف)
السبت 30 يونيو 2018 / 18:53

غروب المثقفين

لم يعد هناك أماكن لتجمع الطبقات الوسطى التي واجهت بعد الحرب الأهلية انقلاباً طبقياً وسياسياً نحاها جانباً وجعلها تنفرط وتخسر مواقعها السياسية والاقتصادية

قفل مقهى «كوستا» في الحمرا المنطقة الراقية في بيروت في 25 حزيران لم يدرِ رواد المقهى الا بعد ذلك أنهم كانوا في مقهى للمثقفين، او أنهم شهدوا إغلاق آخر مقهى للمثقفين في بيروت. مقهى تقلبت عليه الأسماء قبل أن يعود مقهى بارزاً تحت اسم «كوستا». قبل ذلك أغلقت صالات السينما في الشارع الذي اشتهر بها. وأقفلت بضع مقاهٍ للمثقفين إذ إن الرواج التجاري للشارع كان غالباً على حساب دوره الثقافي. وغالباً ما أقفلت مقاهٍ عريضة لتستبدل بمحال تجارية قد تكون واجهات لتبييض الأموال. لم تعد الاكسبرس في أول الحمرا إلى حالها الأولى رغم أنها بعد سنين من العمل كمطعم للبيتزا اجتهدت لتسترجع مكانها كمقهى للمثقفين غير أن المثقفين لم يحتفوا بهذه العودة وتركوها لخواء ما لبث أن أغلقها من جديد. الآن لم يعد هناك أماكن لتجمع الطبقات الوسطى التي واجهت بعد الحرب الأهلية انقلاباً طبقياً وسياسياً نحاها جانباً وجعلها تنفرط وتخسر مواقعها السياسية والاقتصادية، كما أزرى بمكانتها في شيء.

المواقع والأرجح أن الطبقة المثقفة نالها من ذلك الكثير وجعلها تتدهور وتفقد لحمها وروابطها ومواقعها، بعد أن كانت قبيل الحرب هي الطبقة الصاعدة التي تؤسس لمواقع في العيش والتسلية والسياسية والمكانة، كان هذا الانفراط موازياً لعودة الصراع الأهلي وتوطد الزعامات الأهلية وبروز العلاقات الأهلية كنمط للعيش والسياسة وانزواء المثقفين الذين كانوا يصطفون خارج التجمعات الأهلية والمناطق والعشائرية كان سقوط او تراجع مكانة هذه الفئة يعني تذررها وتسليمها بالواقع الجديد، والأرجح ان هذا لم يتم بصعوبة ولا بقدر من المقاومة، اذ لم يكن مرّ وقت طويل على صعود الطبقات الوسطى وعلى نهوضها الثقافي ونشوء قيم جديدة هي مصادرها وأعراف تعود اليها، والبدء بتحولات في العلاقات والأمكنة والمواقع. لقد ورث المجتمع اللبناني أو كان ورث ما جرته الحرب الأهلية 1860 وما نتج عنها. كانت ذاكرة هذه الحرب لا تزال طرية، خاصة أن كل ما أعقبها بني تقريباً عليها. لقد ترافقت فترة الازدهار الاقتصادي التي مهدت أو كانت تمهد لتحول اجتماعي، ترافقت مع نزاع سياسي كان هو الوجه الآخر للصراع الأهلي، وأصبحت التجاذبات السياسية في المنطقة محور هذا الصراع مما جعل البلد على حافة حرب أهلية انطوت بسرعة نسبية بعد 1958 وانشق عنها مشروع قاده العسكر لتأسيس دولة مفارقة نسبياً للعلاقات الطائفية، مشروع لم يستطع الصمود غالباً أمام تداعيات المنطقة بعد هزيمة 1967. الهزيمة التي كسرت الحدود الدولتية في المنطقة العربية وجعلت الدول المركزية وقياداتها في المنطقة تحيل تداعيات الحرب ونتائجها الى الدول الأضعف، الدول الحدودية في المنطقة فكان ان توطنت المقاومة في الأردن الأمر الذي تسبب بحرب أهلية لم تكن الدولة الأردنية جاهزة لاحتمالها فخاضتها وانكسرت المقاومة مما جعلها تنقل عتادها وقوتها وحربها الأهلية المتجولة الى لبنان، حيث لم تستطع الدولة ان تصمد أمام الانقسام الاجتماعي الحربي والعسكري. فقد مرت عليها ولم تقم لها بعد ذلك قائمة، ومنذ ذلك الحين وهي تصارع، لكن بقدر من التراخي والتواطؤ والصراع الداخلي، لاستعادة قدر من مكانها وهيمنتها، الأمر الذي لم ينجح رغم المظاهر والإدعاءات.

مع سقوط الدولة وانهيارها، سقطت معها مادة الدولة وطبقتها الملازمة، أي الطبقة المثقفة ورديفتها الطبقة الوسطى. لقد هبطت مكانة الوسطى وكانت من قبل في ازدهار، وانزوت جانباً وفقدت روابطها الداخلية وغامت قيمها واعتراضاتها ولم تعد تملك لحماً داخلياً. ذلك يعني ليس انحدار هذه الطبقة فحسب، بقدر ما يعني ان كل نزوعها الى التوحد والتكامل، ان حضورها الثقافي والاجتماعي والسياسي، زال أو كاد. لم يعد لهذه الطبقة سوى الانعزال والانزواء، لقد خرجت من العملية الاجتماعية مع ثقافتها وقيمها وأعرافها ونقدها، واعتراضها وانزوت في ركن من المجتمع. من هنا لا نتفاجأ بإغلاق مقاهيها ومؤسساتها، لا نتفاجأ فهذا مظهر انفراطها وهذامظهر تذررها وافتقارها لأي مشروع خاص أو تخليها عن اي مشروع خاص وانسحابها الجزئي من العملية الاجتماعية.