السبت 30 يونيو 2018 / 18:39

تجارب إصلاح الأزهر

إذا كانت الوظيفة التعليمية للأزهر قد بدأت عقب الانتهاء من بنائه بسنوات قليلة حين جلس أبو الحسن بن النعمان قاضي القضاة ليتحدث في "فقه آل البيت" فإن أول محاولة حقيقية لإصلاح التعليم الأزهري انتظرت أكثر من ثمانية قرون، إذ تمت أيام تولي محمد العروسي المشيخة، خلال الفترة المتراوحة بين 1818 و1829، حيث سعى إلى إدخال علوم الطب والكيمياء والطبيعة لتشكل جزءا من المناهج التعليمية للأزهر، لكن سعيه خاب، نظرا لعدم اقتناع القائمين على الأمر وقتها بأن الأزهر يمكنه أن ينتج تعليما وعلما خارج الدين. ولما جاء من يقتنع بالفكرة مات العروسي فدفنت معه مؤقتا.

نعم انتعش الدور التعليمي للأزهر في العصرين المملوكي والعثماني، بعد طول إهمال في عهد الأيوبيين لحساب مدارس اختصت بتدريس فقه المذهب السني، لكن هذا الانتعاش كان بمثابة "توسع أفقي" في هذا الدور، إذ زيد في عدد المدارس الدينية بعد تجديد بناء الأزهر وتوسيع مساحته، فزاد معها عدد الطلاب الملتحقين به، وعدد المدرسين الذين يعقدون حلقات العلم الديني فيه. لكن ظل الأمر مقتصرا في أغلب الأحوال على تدريس العلوم الدينية من فقه وحديث وتوحيد ومنطق وعلم كلام، إلى جانب مبادئ في علم الفلك والرياضيات والآداب. ولم يكن الطلاب مقيدين بالانتظام في حضور دروس العلم، ولم تكن هناك لوائح تنظم سير العملية التعليمية، وتحدد مناهج الدراسة ومدتها وأعضاء هيئة التدريس. بل كان الطلاب أنفسهم يتحكمون في تعيين مدرسيهم، من خلال الإقبال على حلقاتهم من عدمه. فمن يداوم الطلاب على حضور دروسه، وتتسع حلقته العلمية، يجيز شيخ الأزهر صلاحيته للتدريس، والعكس صحيح.

ووضع الشيخ حسن العطار، الذي تولى مشيخة الأزهر في الفترة من 1830 و1834، لبنة جديدة في بناء إصلاح التعليم الأزهري، مستغلا علاقته المتوازنة مع محمد علي، من جهة، وسعة إطلاعه من جهة ثانية، إذ كان ملما، إلى جانب علوم الدين، بعلم الفلك والطب والكيمياء والهندسة والموسيقى والشعر، ما حدا بالمؤرخ المصري العظيم عبد الرحمن الجبرتي إلى أن يصفه قائلا: "قطب الفضلاء، وتاج النبلاء ذو الذكاء المتوقد والفهم المسترشد، الناظم الناثر، الآخذ من العلوم العقلية والأدبية بحظ وافر". وقد استفاد العطار مما خلفته الحملة الفرنسية من علوم، ومن رحلاته إلى أوروبا وبلاد الشام، في سعيه إلى إصلاح الأزهر، وكانت الثمرة إنتاج جيل من رواد النهضة المصرية الحديثة، ممن تتلمذوا علي يد العطار، وفي مقدمتهم رفاعة رافع الطهطاوي، ومحمد عياد الطنطاوي.

لكن الخطوة الفارقة على درب إصلاح التعليم الأزهري جاءت في عهد الخديوي إسماعيل، ودشنها قانون صدر عام 1872، لتنظيم حصول الطلاب على شهادة "العالمية"، وتحديد المواد الدراسة بإحدى عشرة مادة زاوجت بين العلوم الدينية والأدبية، إذ حوت الفقه والأصول والحديث والتفسير والتوحيد والنحو والصرف والبيان والبديع والمعاني والمنطق. كما حدد القانون طريقة امتحان الطلاب، بأن يوضع الطالب موضع المدرس، ويصبح ممتحنوه في موضع الطلبة، فيلقي الأول درسه ويناقشه الآخرون في مختلف فروع العلوم، نقاشا مستفيضا قد يمتد لساعات طويلة، بعدها يتم الحكم على مستواه العلمي.

وبعد هذا بربع قرن تقريبا، وتحديدا عام 1896، دبت عافية الإصلاح قوية في ربوع الأزهر، بفعل عدة قوانين صدرت في عهد الإمام حسن النواوي، الذي تولى المشيخة خلال الفترة من 1896 إلى 1900، كان للإمام العظيم محمد عبده دورا كبيرا في سنها. وحددت هذه القوانين سن القبول للأزهر بخمسة عشر عاما، شريطة الإلمام بمبادئ الكتابة والقراءة. والأهم كان إدخال عدة علوم على المناهج التعليمية الأزهرية، منها التاريخ الإسلامي والهندسة وتقويم البلدان (الجغرافيا). وبمقتضى القانون نفسه أضيفت "شهادة" قبل العالمية سميت "الأهلية"، كانت تتيح لحاملها الخطابة بالمساجد، أما من يحصل على "العالمية"، فيحق له التدريس بالأزهر.

وقد فتح الإمام محمد عبده، برؤيته المستنيرة الموسوعية، نوافذ الأزهريين على الحياة الفكرية العامة، فراح تلاميذه، أو من تأثروا بأفكاره، يكتبون إلى الصحف اليومية، بعد طول احتجاب. ومن بين هؤلاء محمد شاكر وإبراهيم الحيالي وعبد المجيد اللبان ومحمد حسنين مخلوف، ومن بعدهم مصطفى لطفي المنفلوطي وعبد العزيز البشري ومصطفى عبد الرازق وقاسم أمين ومحمد الههيادي وعبد الرحمن البرقوقي، بل وصل الأمر إلى أن بعضهم أصدر مجلات أدبية، مثل "الثمرات" لحسن السندوبي، و"عكاظ" لفهيم قنديل، و"البيان" لعبد الرحمن البرقوقي، وشارك كثيرون في الجدل الفكري الذي أحاط بالحياة الاجتماعية والأحوال السياسية، التي سبقت وواكبت وأعقبت ثورة 1919.

وخلال عهد الإمام سليم البشري (1900ـ 1902/ 1909 ـ 1916) أنشئت "هيئة كبار العلماء"، تحديدا عام 1911، التي تغير اسمها في ظل مشيخة الإمام محمد مصطفى المراغي (1928 ـ 1929/1935 ـ 1945) إلى "جماعة كبار العلماء"، وكانت تتكون من صفوة علماء الأزهر، وهي نواة لـ"مجمع البحوث الإسلامية" الذي يشتد حضوره راهنا في الحياة الاجتماعية، إلى جانب "جبهة علماء الأزهر" التي تملأ الدنيا صخبا من خلال تعليق بعض أعضائها على الأحداث الجارية، أو رقابتهم على بعض الأعمال الفكرية والثقافية، التي يدور حولها لغط، ويتهمها البعض بالتجديف في الدين، وهي المسألة التي زادت بشكل ملموس في عهد إمامة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق (1982 ـ 1996).

لكن بذرة تحول الأزهر إلى "جامعة" غرست عام 1930،في عهد الإمام محمد الأحمدي الظواهري (1929 ـ 1944)، حيث تم إنشاء ثلاث كليات هي "أصول الدين" و"الشريعة" و"اللغة العربية"، فلما جاء عام 1961، صدر القانون رقم 103، الذي بات الأزهر بمقتضاه "جامعة"، بعد أن أضيفت إلى كلياته الثلاث المذكور كليات مدنية مثل "الهندسة" و"الطب" و"الإدارة" و"الزراعة" و"البنات"، وقد كان ذلك في عهد الإمام محمود شلتوت (1958 ـ 1964).

ووازى هذه التطور في البنية التعليمية تدرج في الإصلاح الفكري للأزهر، كان يعلو ويهبط، يتوهج ويخبو، حسب التكوين العقلي لمن يتولى المشيخة. وإذا كانت حركة النهضة المصرية قد اشتد عودها مع بداية القرن العشرين، فإن الأزهر في ذلك الآونة، كان يقوده رجلا ناصر الثورة العرابية، وتولى نظارة دار الكتب، وكان صديقا لمحمود سامي البارودي، وتحمس بقوة لأفكار الإمام محمد عبده الإصلاحية، وهو الشيخ علي محمد الببلاوي (1902 ـ 1905). لكن خلفه الشيخ عبد الرحمن الشربيني (1905 ـ 1906)، كان تقليديا سلفيا، عادى الإصلاح وتحيز للقديم. فلما جاء المراغي وضع نواة رقابة الأزهر على المنتج الفكري من خلال إنشاء هيئة تراقب البحوث والثقافة الإسلامية والكتب التي تهاجم الدين. وتبعه الظواهري، الذي كان إصلاحيا إلى حد كبير، يميل إلى تجديد الفقه بما يواكب التغيرات الاجتماعية والسياسية، ويسعى إلى أن يكون علماء الدين ملمين بمجريات الواقع، وأن يفهموا في السياسة قدر فهمهم في الفقه والأصول والحديث..الخ. وقد كان الظواهري يطبق هنا أفكاره التي ضمنها في كتاب وسمه بـ"العلم والعلماء"، دافع فيه باستماتة عن الأفكار الإصلاحية لمحمد عبده، ما دفع الخديوي عباس حلمي إلى محاربته، وجمعت نسخ الكتاب لتحرق في ساحة الجامع الأحمدي بطنطا، لكن مصادرة الكتاب، لم تحل دون ذيوعه، فانكب الطلاب ينسخون منه صورا باليد، ويتبادلونها. وأعاد الإمام عبد الحليم محمود طبع الكتاب، حين كان يتولى أمانة مجمع البحوث الإسلامية.
  
وبعد الظواهري تبوأ مشيخة الأزهر رجلا مستنيرا، من تلاميذ محمد عبده، إنه الإمام مصطفى عبد الرازق (1945 ـ 1947)، الذي درس الفلسفة والآداب بجامعة السربون، فزاوج بين ثقافة الغرب وتراث الإسلام، ولذا نادى بانفتاح الأزهر على الغرب، وشيد قاعة محمد عبده بالأزهر لتكون ملتقى للمؤتمرات الدولية الإسلامية، وترجم بعض الكتب الدينية، وفي مقدمتها "رسالة التوحيد" إلى اللغة الفرنسية. وواصل خلفه الإمام محمد مأمون الشناوي (1947 ـ 1950) ما أمكنه مسيرة عبد الرازق، حين أرسل نوابغ طلاب الأزهر لتعلم اللغة الإنجليزية، كي يصبحوا دعاة عصريين قادرين على مخاطبة "الآخر". أما الإمام عبد المجيد سليم (1950 ـ 1951/ 1952 ـ 1954)، فقد انصب اهتمامه على تحرير الفقه من التقيد بالمذاهب، التي حاول التقريب بينها، ودعا إلى إعمال العقل في الأمور الدينية.

وبعد ثورة يوليو 1952، حاول أغلب من تولوا مشيخة الأزهر تطويع رأي الدين لخدمة السياسات السائدة، فشلتوب أفتى بأن "القوانين الاشتراكية لا تتعارض مع الإسلام"، والدكتور محمد الفحام الذي تولى المشيخة في الفترة من (1969 ـ 1973)، اعتبر أن الانقضاض على الاشتراكية بمقتضى ما أسماها السادات ثورة التصحيح عام 1971 هو "خطوة تأتي من أجل كفالة الحريات للوطن والمواطنين وسيادة القانون وبناء لدولة الجديدة".
لكن الأزهر كان قد استوعب الكثير من الأفكار الإصلاحية التي روج لها رواده على مدار قرن من الزمان، يبدأ من منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، إلا أنه لم يتخذ خطوات فارقة على هذا الدرب، نظرا لطغيان "السياسي" على "الديني" و"الفكري" معا عقب قيام يوليو 1952، بما جعل الخط البياني في إصلاح الأزهر، يعلو ببطء لا يقارن أبدا بالقفزات التي كان تحدث من قبل، حين شرع أنصار العقل والحرية في طبع بصماتهم على الرؤية الدينية، بما يمكنها من أن تلقي بغمارها تدريجيا في الواقع المعيش، وتخرج من إسار الكتب القديمة، التي أنتجها الفقهاء في عصور ولت.

اليوم يتحدث الأزهريون عن الإصلاح والتجديد، ويحثهم المثقفون المدنيون على هذا، وتطلب السلطة السياسية منهم ذلك، لكن في الحقيقة لا مجال لحديث الأزهر، جامع وجامعة، عن إصلاح ديني دون خمسة شروط أولها أن نقر بأن الإيمان مسألة فردية، لا دخل لأحد فيها سواء كان عالم دين أم غيره، وأن نعتبر العقل مكمل لمسار الوحي وليس خصيما له ولا نكتفي بمجرد التلفيق بين الأول والثاني، كما يفعل الوعاظ حاليا، وأن نلتفت إلى الجوانب الأخلاقية ونراها هي جوهر الدين وليست الطقوس، ونهتم بالإصلاح الاجتماعي وأن يكون الدين رافعة له وليس خصما منه، وأن نميز بشكل واضح لا لبس فيه بين الدين والسلطة السياسية التي يجب أن تكون مدنية، والسيادة فيها للناس، والتشريعات للمؤسسات التي يختارونها.

وهنا يثار التساؤل: هل بوسع الأزهر أن ينهض بهذه المهمة، وهو مثقل بالانشغال بعلوم مدنية ينشغل بها غيره، بما لا يعطيه فرصة أكبر للانشغال بالأساس بتطوير العلوم الدينية وتحديثها أو عصرنتها؟ وهل بوسع هذه العلوم أن تفتح مدارك الأزهريين كما قصد الذين أخذوا الأزهر في طريقه الحالية؟ أم هي جعلته يبتعد تدريجيا عن مهتمه الرئيسية فتقفز على الساحة جماعات ووعاظ أراداوا أن يكونوا هم، بخطابهم الذي ساهم في اخنطاف الإسلام، من يلبون طلب الناس على الدين؟