الفيلسوف باروخ اسبينوزا.(أرشيف)
الفيلسوف باروخ اسبينوزا.(أرشيف)
الأربعاء 4 يوليو 2018 / 21:12

الوحْش في الغابة

حقوق الفرد لا تُحد إلا بحدود قدرته. ولمّا كانت قدرات الفرد في عصرنا الرقمي غير محدودة، فإن حقوقه أيضاً غير محدودة، فمن حقه الهروب من سجن على متن طائرة، أو تمويل الإرهاب العابر للقارات

وُلد الفيلسوف باروخ اسبينوزا في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 1632، وتوفي في أمستردام 21 شباط (فبراير) 1677، أي مات في الخامسة والأربعين من عمره. اسبينوزا من أسرة يهودية هاجرتْ إلى هولندا من إسبانيا التي كانت تضطهد اليهود. في أمستردام درس كتاب "التلمود"، وهو مجموعة من التفسيرات والشروح والأخبار والأحكام التي وضعها حكماء اليهود وفقهاؤهم، ويتضمن أحوال اليهود وصلواتهم وآراءهم، وعاداتهم وتواريخهم وقصصهم، ويزيد على عشرين مجلداً، وينقسم إلى قسمين، "المشنا" و"الجمارا"، ويوجد تلمودان، تلمود أورشليمي، وقد أنجز في طبرية، وتلمود بابلي، أنجز في بغداد. و"المشنا"، هو النص الذي ينبغي أن يُحفظ عن ظهر قلب، و"الجمارا"، هي الحاشية، وغالباً ما تتضمن الأحكام النهائية.

كذلك درس اسبينوزا بعض مؤلفات موسى بن ميمون، وبعض علماء اللاهوت اليهودي في العصور الوسطى. واطلع أيضاً على "القبالة"، وهي فلسفة غامضة، ترتكن إلى أعداد فيثاغورس الرياضية، لتفسير معاني الحروف والكلمات، وهكذا يُخلق نص آخر مُشفَّر، باطني، أهم من النص الظاهر، ولا سبيل لمعرفته إلا عن طريق الأعداد.

شاهد اسبينوزا جلد الفيلسوف الهولندي، البرتغالي الأصل، أورييل دا كوستا علناً، بناء على حكم صادر من الكنيس اليهودي. اتهم دا كوستا الحاخامات بتحريف عقيدة موسى، ومات منتحراً. بدأتْ مظاهر التمرد ضد العقيدة اليهودية المتزمتة تتجلى عند اسبينوزا لمّا بلغ الثالثة والعشرين من عمره. حاول بعض رجال الطائفة اليهودية استمالة اسبينوزا تحت إغراء المال، فرفض الرضوخ، فحاول أحدهم قتله، لكن المحاولة أخفقتْ. اتهمه الكنيس اليهودي في أمستردام بالإلحاد، وأصدر قراراً بطرده. قاطعته الطائفة اليهودية وأصدقاؤه وأسرته. عاش اسبينوزا على مهنة صقل العدسات البصرية، خصوصاً عدسات التليسكوب. فَتَنَتْ تلك المهنة فيما بعد كثيرين مثل الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، والكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، فالعدسات معنية بالرؤية، والفلسفة أيضاً.

كانت رؤية اسبينوزا للأخلاق قريبة من رؤية الرواقية، فالحكيم كمثل أعلى، عليه أن يعرف مكانة الإنسان في الكون، لأن المعرفة تحمي الإنسان من اضطراب النفس تجاه مصائب الحياة. إن جعل الحياة تسير بمقتضى العقل، وطلب الفضائل من أجل الفضائل نفسها، غاية الرواقي القديم كما هي غاية اسبينوزا. يشترك اسبينوزا مع الرواقية في تقرير الجبرية، وإنكار الحرية الإنسانية. المشكلة بالنسبة إلى كليهما، هي معرفة كيف يمكن قيام أخلاق دون افتراض حرية الإنسان؟ هل الأخلاق أمر بواجبات، وهل المجبر لا يؤمر على فعله، طالما لا خيار له فيه؟ هذه المعضلة لم يستطع اسبينوزا حلها، فالفضائل عندما يطلبها الإنسان أو الحكيم الرواقي، تكون من أجل ذاتها، ولهذا يصعب انزال قيمتها إلى مجرد فضائل ترزح تحت نير الجبرية، فالفضيلة لا تطلب ذاتها إلا باختيار. أحس اسبينوزا بهذا التناقض، ولهذا يقر في بعض مواضع كتاباته، بأن الإنسان يشعر أحياناً أنه حر ومسؤول عن فعله. أمّا حين يُميز بين الخير والشر، فالأمر يقتصر عنده على المعرفة، فما يُقوِّي المعرفة يُعد خيراً، وما يُضعفها، مثل الانفعالات والشهوات، يُعد شراً.

تأثرتْ آراء اسبينوزا في الدولة والسياسة بآراء الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز. قرأ اسبينوزا كتابي هوبز "رجل في المدينة" و"لوياثان". اعتقد اسبينوزا أن تكوين المجتمع السياسي بما ينطوي عليه ذلك من قيود على الحرية الفردية للإنسان، يمكن تبريره لأسباب عقلية. إن إيجاد مجتمع سياسي، هو أنجح طريقة لحماية المجتمع من الفوضى، وحمايته كذلك من الأضرار الناجمة عن تزاحم بني الإنسان على مصالحهم الذاتية. يتحدث اسبينوزا عن القانون، ويقصد بالقانون المجرى الذي يجب على كل إنسان السير فيه، وخارج هذا المجرى تكون الحرية فوضوية، والذاتية وحْشاً في غابة. في زمننا المعاصر، تفقد معظم الدول التوازن الدقيق بين الحرية والقانون، والسبب يكون دائماً، هو سياسة المال التي تتبعها دول كبرى إزاء دول صغرى، وهي سياسة الاستعمار الما بعد حداثي. الدول الكبرى تُمجِّد الحريات الذاتية لدى الدول الصغرى، وتتغافل عن القانون عامدةً. الفرد في الدولة الصغرى يُصبح وحْشاً في غابة. تنهار الدولة الصغرى، وتُنْهَب من الدولة الكبرى عن طريق تجارة السلاح والمخدرات والأعضاء، والوصاية على الثروات الطبيعية.

لكن التفريط في التوازن الدقيق بين الحرية والقانون، يُصبح هو الآخر وحْشاً في الدول الكبرى، على سبيل المثال تقرأ أن رضوان فايد، وهو لص شهير، هرب من سجنه في باريس على متن طائرة مروحية هبطتْ في ساحة السجن. أو تقرأ أن القضاء الفرنسي وضع الرئيس السابق لشركة "لافارج" للإسمنت، برونو لافون، تحت الرقابة القضائية بتهمة تمويل الإرهاب. يقول اسبينوزا: إن حقوق الفرد لا تُحد إلا بحدود قدرته. ولمّا كانت قدرات الفرد في عصرنا الرقمي غير محدودة، فإن حقوقه أيضاً غير محدودة، فمن حقه الهروب من سجن على متن طائرة، أو تمويل الإرهاب العابر للقارات.