فريق طبي يشرف على جراحة دقيقة.(أرشيف)
فريق طبي يشرف على جراحة دقيقة.(أرشيف)
السبت 7 يوليو 2018 / 19:15

صرع العقل لا صرع الدماغ

ماذا لو رأى ابن حزم معاشر المُتعالمين في عصرنا، الذين يضعون عقولهم جانباً أمام سطوة هذا التراث الثقيل، حتى صار الجن والمردة والشياطين يصيبون أفكار الناس بالمسّ أكثر من كونهم يمسون قشرة أدمغتهم

كانت المريضة تُعاني من ورم خبيث في دماغها من الدرجة الرابعة، وكان الدماغ يُعبر عن رفضه لهذا الجسم الغريب عن طريق إطلاق شحنات كهربائية تظهر على شكل تشنجات تصرع المريضة أرضاً، ورغم اثبات وجود الورم بالعين المجردة بالوسائل القطعية؛ إلا أن إماماً -من الجنسية الآسيوية- استطاع إقناع زوج المريضة بأن زوجته لا تعاني سوى من مس شيطاني، وأنها بحاجة إلى قراءة بعض التراتيل المُجربة للتخلص من هذا الاستلباس، لم يكن يُسمح لفضيلته بالقدوم إلى المستشفى للقيام بوظيفته على أكمل وجه، فاقترح على الزوج تهريب امرأته إلى خارجها؛ إلى المكان الذي يقصده فيه مريدوه؛ وفعلاً تم له ذلك بالحيلة، وبمجرد بدء الطقوس؛ تفاقمت نوبات الصرع؛ ولم يستطع الامام التحكم بها لأنه لا يملك حقنة مضادة للتشنجات، فكل ما يملكه كان مجموعة من "التفلات" المقدسة، عادت المريضة إلى مشفاها عودتها الأخيرة إلى حيث كانت البداية، وتوفيت بعد دخولها قسم العناية المركزة.

مما يُؤسف له أن بعض المتعلمين لا يزالون يعتقدون بوجود قوى خفية تقف خلف الأمراض العضوية، فالصرع مرض عضوي سببه نشاطات عصبية غير طبيعية في الدماغ تؤدي إلى حدوث التشنجات، وعلاجه يكون بعلاج سببه أو التحكم بأعراضه عند عدم وجود سبب عضوي ظاهر، أما المعالجون الروحانيون؛ فيرون أن الشيطان يُحول نفسه إلى طاقة حرارية أو هوائية ليختلط بجسد الإنسان ويجري منه مجرى الدم، مخالفين في ذلك قوله تعالى: (قال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم).

ولو رجعنا لرواية البخاري الكاملة التي يستدلون بها دائماً؛ فإنها تقول إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع زوجته صفية ليلاً، فلقيه رجلان فنظرا إليه ثم أجازا، (فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: تعاليا، إنها صفية بنت حيي، قالا: سبحان الله يا رسول الله، قال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم)، فالحديث واضح في كونه يقصد الوسوسة، فلا يعقل أن يكون الشيطان قد تلبس الصحابيين حين رأيا النبي ص مع زوجته!

كذلك يستدلون على وقوع مس الجن للإنسان في القرآن بآية نزلت في شأن الربا؛ وهي قوله تعالى (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) أي كالذي يمسه الشيطان فيجن؛ والمس لا يمكن أن يعني الصرع، فالنبي أيوب حين قال (ربي أني مسني الشيطان بنصب وعذاب)؛ فإنه لم يكن مصاباً بالصرع ولم يكن قد استحوذه الشيطان؛ يقول ابن عاشور في تفسيره (إن الشيطان لا تأثير له في بني آدم بغير الوسوسة)، ويقول الزمخشري (وتخبط الشيطان من زعمات العرب، يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع، والخبط الضرب على غير استواء كخبط العشواء، فورد على ما كانوا يعتقدون)، وذكر القفال الشافعي أن الناس يضيفون الصرع إلى الشيطان وإلى الجن؛ فخوطبوا على ما تعارفوه من هذا، وأيضاً من عادة الناس أنهم إذا أرادوا تقبيح شيء، أن يضيفوه إلى الشيطان؛ وعلى ذلك جرى قوله تعالى: (طلعها كأنه رؤوس الشياطين).

انتبه المعتزلة مبكراً إلى تلك الضحالة في تفسير النصوص، فرفضوا فكرة صرع الشيطان للإنسان تماماً، وتبعهم على ذلك الرازي من الشافعية وأبو يعلى من الحنابلة. يقول ابن حزم: (أما كلام الشيطان على لسان المصرع فهذا من مخاريق العزامين –أي معاشر الرُقاة- ولا يجوز إلا في عقل ضعفاء العجائز).

فماذا لو رأى ابن حزم معاشر المُتعالمين في عصرنا، الذين يضعون عقولهم جانباً أمام سطوة هذا التراث الثقيل، حتى صار الجن والمردة والشياطين يصيبون أفكار الناس بالمسّ أكثر من كونهم يمسون قشرة أدمغتهم. العالم الآخر يتحدث عن أدوية كابحة للتشجنات؛ جراحات دقيقة للفص الصدغي في الدماغ؛ تحفيز عميق للدماغ عن طريق زراعة أقطاب كهربائية، بينما يظل بعض الرقاة يصرون على جذبنا إلى عالم الشامانات والحيل السحرية والنفثات المقدسة.