غلاف كتاب من البليت إلى التابليت (أرشيف)
غلاف كتاب من البليت إلى التابليت (أرشيف)
الخميس 12 يوليو 2018 / 20:38

ذلك الهاتف في محطة الوقود قرب الدهيشة*

في الحكاية/ السيرة ستبدو القدس وشارع صلاح الدين والأدراج الذاهبة إلى "باب العمود" ونداءات الباعة والنسوة القادمات من القرى في صباحات القدس المبكرة بالأبيض والأسود

في خريف 1994 التقيت مع ابراهيم ملحم في أريحا، كنت قادماً من تونس عبر غزة وكان قادماً من بيت لحم، يبدو المكان حتى بعد أكثر من عقدين من الزمن وكأنه يسعى في ذاكرتنا بدأب الصديق الوفي، فندق هشام في أريحا، رائحة المكان المهجور المتقشف، الشرفات المفتوحة على طقس أريحا القائظ والرغبة في اصطياد القمر الاستثنائي عندما يكتمل فوق الأخدود، لم نتبادل حديثاً معيناً ولكننا كنا هناك ضمن مجاميع "العائدين" من كوادر منظمة التحرير والعاملين في المؤسسات الاعلامية داخل الوطن، التلاقي الخاص بين خبرات المنفى بانفتاحها على التجارب، إعلام الثورة الممتد من تأسيس منظمة التحرير وحتى محطة قبرص مروراً بسلسة الحصارات في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي وخبرات الوطن الخارجة للتو من تجربة الانتفاضة الكبرى وخبرتها الاستثائية في تكوين صحافة قادرة على مواجهة الاحتلال.

ثمة تقاطعات كثيرة اكتشفتها خلال قراءتي لمخطوط هذا الكتاب السيرة، بين ابراهيم وبيني، رغم اختلاف الجغرافيا، كلانا درس التربية الرياضية في معاهد إعداد المعلمين التابعة لوكالة الغوث، وكلانا مارس مهنة التدريس في الحقل، ومن ممرين مختلفين وصلنا الى الصحافة، واصل هو الصحافة الرياضية عتبةً لدخول المهنة التي سحرتنا وتتبعت ممر الصحافة الثقافية، بهذه الحمولة وصلنا ذلك الخريف إلى فندق هشام في أريحا.

في سرده البسيط والعميق يأخذنا ابراهيم ملحم إلى تلك المحطة التي أظن أنها لم تعط حقها في البحث والدراسة، ولم تستثمر على النحو السليم حيث أخذتها العجلة وتدفق الأحداث.

لا يحمل إبراهيم ملحم السرد عبء الإرشاد وزج النصائح في المتن، فهو يذهب في ممرات صغيرة تمتلئ بحركة الناس وتنفسهم، بالحكايات المتروكة دون رعاية والهوامش وتفاصيل الأمكنة، تلك التي تجعل من الحياة أمراً ممكناً.

ولا يعزل العمل عن الحياة التي تدب حوله والأماكن والأشياء التي تعيش وتتجول خارج المهنة.
هي سيرة المهنة أيضاً.

في الحكاية السيرة، ستبدو القدس وشارع صلاح الدين والأدراج الذاهبة إلى "باب العمود" ونداءات الباعة والنسوة القادمات من القرى في صباحات القدس المبكرة بالأبيض والأسود، بينما يواصل عمال المطابع هناك داخل المشهد تحت أضواء ماكينات الصف الثقيلة صهر الرصاص وتنضيد الحروف الثقيلة، فيما تتشكل مثل غيمة طيبة من كل هذا تلويحة وداعية لحارس البوابة في صالة التحرير ورائحة الحبر وبخار الرصاص المصهور والمنضدين المنحنين في مشهد تراجيدي على تشكيلات الحروف.

وفي مكان سيسمع صوت المحرر وهو يواصل عمله من هاتف محطة الوقود القريبة من الدهيشة.

توقفت طويلاً أمام محطة البنزين تلك، التي تكرر ظهورها كمخلص في أكثر من موقف، لا لأمنحها أكثر مما قصده ابراهيم، ولكن لأنها تعكس بعفويتها المطلقة قلق المهنة ومتاعبها وشروط العمل المركبة التي استدعت من الإعلامي الفلسطيني استخدام المكان وترويض الواقع.

"الكازية" التي تتحول في منع التجول وأوقات الإغلاق الطويلة إلى غرفة تحرير قادرة على إنقاذ الموقف.

سيبدو المشهد الليلي ذاك تحت أضواء محطة الوقود القريبة من مخيم الدهيشة لرجل يتحدث بقلق في الهاتف العمومي مثالياً تماماً وصالحاً، على نحو إنساني، للمقارنة مع "البطانية" التي تتحول إلى عازل صوت في إذاعة الثورة خلال حصار بيروت في صيف 1982.

حتى تلك المواقف الطريفة، التي أوردها في فصل خاص، تأخذ مكانها في صلب السيرة، وتمنحهاً ملمحاً إنسانياً وتضيفها إلى تكوينات الحكاية المتواصلة.

لمحة الوفاء الضرورية للأسماء والأشخاص وحسن الطالع الذي يضيف للحياة حس المغامرة.

تبدأ الرحلة قبل ذلك بكثير، في زمن آخر واحتلال آخر، تحديداً في العام 1876 عندما ظهرت صحيفة  "القدس الشريف" التابعة للحكم العثماني، بعد 46 عاماً على وصول أول مطبعة إلى البلاد الفلسطينية في العام 1930، وتعززت عبر مسيرة رواد مثل عيسى العيسى وابراهيم الشنطي ومحمود أبو الزلف، في ذلك الزمن الذي كانت الصحافة الفلسطينية تعتمد اللغة الفرنسية في إعلاناتها وهوامشها.

الضوء الذي يُسلطه ملحم على الممرات المهجورة تأخذنا حتى أولئك الشهداء الذين اختفوا أو اغتيلوا مثل يوسف نصر الذي اختفى في مطلع السبعينيات، وحسن عبد الحليم الذي وجد مقتولاً بعد 79 يوماً على اختفائه واختفى معه تقريره الذي كان يعمل على انجازه حول مصادرة الأراضي في الخليل.

إن قوة السيرة الحقيقية تكمن في تحويل سيرة المكان والعمل المحمول على الشغف والولاء للمهنة والبشر الذين يسعون في انحاء الحكاية إلى سيرة شخصية، وهذا ما فعله إبراهيم ملحم في كتابه هذا.

*مقدمة لكتاب الإعلامي إبراهيم ملحم "من البليت إلى التابليت".