الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وفي الخليفة خريطة للشرق الأوسط (أرشيف)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وفي الخليفة خريطة للشرق الأوسط (أرشيف)
الأحد 15 يوليو 2018 / 20:01

الروس ونفق الشرق الأوسط الطويل

يمكن القول، اليوم، بأثر رجعي، إن التدخل العسكري الروسي في سوريا، أنقذ نظام آل الأسد. بدأ التدخل قبل ثلاث سنوات، ولا يعرف أحد متى سينتهي، وما هي الأشكال التي سيتخذها بعد انتهاء المعارك على الأرض.

أصبحت سورية ورقة استراتيجية في يد الروس، ولكن مجرّد النجاح في انتزاع ورقة كهذه لا يمثل ضمانة كافية للحكم على طريقة استثمارها بطريقة سياسية ناجحة، أيضاً

ولكن هذه الأسئلة قليلة الأهمية إذا ما قورنت بأسئلة من نوع: لماذا تدخل الروس، وما هي أهدافهم السياسية بعيدة المدى، والأهم كيف ستتجلى نتيجة ما حققوا، على الأرض، في مكاسب إقليمية ودولية، ناهيك عمّا يتصل منها بمستقبل علاقتهم بالنظام.

ويصعب في الواقع، إدراك كل ما تقدم في معزل عن خروجهم خاسرين من الحرب الباردة، وتآكل مكان ومكانة روسيا، كقوة عظمى، على مدار عقدين من الزمن، بعد انهيار الإمبراطورية السوفياتية.

فعلاوة على تفكك الدولة السوفياتية، وفقدان موارد بشرية ومادية هائلة، ومساحات جغرافية شاسعة، شكلت عمقها الاستراتيجي في أوروبا الشرقية، وآسيا الوسطى، بعد الحرب العالمية الثانية، أنفق الروس العقدين المذكورين في تدارك تداعيات داخلية اجتماعية، وسياسية، واقتصادية، أعقبت انهيار الإمبراطورية.

وتمكن بوتين بمزيج من القومية الروسية، والشعبوية، وخبرات، وشبكات، الأجهزة الأمنية القديمة، والأغنياء الجدد، من تحقيق الاستقرار بثمن تجلى في احتكار السلطة، وإغلاق الحقل السياسي، وعرقلة التحول إلى ديمقراطية ليبرالية على الطراز الغربي.

وبما أن أحداً لا يستطيع تعريف المصلحة القومية العليا في معزل عن الجغرافيا السياسية لبلاده، فقد شعر الروس بما ينطوي عليه زحف حلف الناتو، في أوروبا الشرقية، وآسيا الوسطى، من مخاطر استراتيجية، تستدعي الرد، وربما الهجوم المضاد، كما حدث في أوكرانيا. واستعادوا، على مدار العقدين الماضيين، جانباً كبيراً من النفوذ التقليدي في دول كانت ضمن الاتحاد السوفياتي، والكتلة الشرقية.

لذا، وفي ضوء ما تقدّم، يمكن التفكير في دوافع التدخل العسكري الروسي في سوريا بوصفه نقلة على رقعة شطرنج تغطي مساحة العالم.

فمع نهاية الحرب الباردة، أصبحوا خارج الشرق الأوسط، وكان ما تبقى لهم من "أصدقاء" تقليديين في "عراق صدام"، و"سوريا الأسد" مجرد جزر مُحاصرة، وقليلة التأثير، على رقعة الشطرنج الدولية.

والأهم من هذا وذاك، أن قوميات وإثنيات إسلامية مختلفة، في آسيا الوسطى، شكلت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي دولاً مستقلة، تنتسب من حيث الأصل واللغة، والذاكرة التاريخية، إلى الأتراك والإيرانيين، وهذا يعني أن قوتين متوسطتي الحجم من طراز تركيا وإيران، في حال تبدلت ولاءات القوميات والإثنيات المعنية، يمكن أن تصبحاً لاعباً مؤثراً في "الفناء الداخلي" لروسيا الاتحادية.

وبهذا المعنى، وبقدر ما كان التدخل العسكري الروسي، في سورية، مغامرة محفوفة بالمخاطر، كان فرصة ذهبية لاصطياد أكثر من عصفور بضربة واحدة، أيضاً. فمع وجودهم في سوريا، خلقوا لأنفسهم موطئ قدم، تُسيّجه الدبابات والطائرات، في الشرق الأوسط، وعلى ساحل المتوسط، وأصبحوا شريكاً لا يمكن الاستغناء عنه، في نظر اللاعبين الإقليميين والدوليين، على الأراضي السورية.

وبما أن كل هؤلاء تدخلوا في سوريا بحسابات إقليمية ودولية، تتجاوز الشأن السوري نفسه، أصبح الروس طرفاً مُقرراً في كل حسابات إقليمية ودولية محتملة.

ويبدو أن الإسرائيليين كانوا أول من أدرك هذا التحوّل الاستراتيجي، فبادروا إلى تمتين علاقتهم بموسكو، التي تحتاجهم، أيضاً، في إدارة علاقتها المُعقدة، بالولايات المتحدة.

والواقع أن العلاقات الروسية الإسرائيلية، في أفضل حالاتها، وبلغت مرحلة غير مسبوقة بعد عقود طويلة من الجفاء، وتشبه إلى حد ما مع اختلاف الحسابات، السنوات القليلة التي أعقبت قيام الدولة الإسرائيلية.

وفي السياق نفسه، ورغم حقيقة أن الحسابات التركية، والإيرانية، لا تنسجم بالضرورة مع حسابات ومصالح الروس، إلا أن الطرفين المذكورين لا يملكان ما يكفي من أوراق القوة، وحرية المناورة، لإثارة غضب موسكو، في الوقت الحالي.

والمُلاحظ أن الروس يبذلون جهداً واضحاً في سبيل الحفاظ على علاقة جيدة بكل الأطراف، وهم لا يريدون استعداء أحد، هذا إذا أسقطنا من الحسبان ملايين السوريين الذين لن يغفروا لهم إنقاذ نظام ثاروا عليه.

ولا يبدو من قبيل المبالغة، وبقدر ما تتجلى الأمور الآن، القول إن الروس أصبحوا مثل "بيضة القبان" في المعادلة السورية، وأن لهذا الثقل المادي والرمزي دلالة سياسية واستراتيجية تتجاوز المسألة السورية، بحكم ما يتصل بطرق حلها من تداعيات تخص الإقليم والعالم.

ومع هذا كله في الذهن، ثمة ما لا ينبغي تجاهله: نجحت المقامرة، وأصبحت سوريا ورقة استراتيجية في يد الروس، ولكن مجرد النجاح في انتزاع ورقة مثلها لا يمثل ضمانة كافية للحكم على طريقة استثمارها بطريقة سياسية ناجحة، أيضاً.

فبعد نهاية الحرب الباردة تربّع الأمريكيون على قمة العالم، وكان في وسعهم إنشاء نظام يسوده السلام والعدل، ولكنهم أضاعوا الفرصة برهانات ومغامرات، أسهمت بقدر كبير في كل ما يتجلى من مظاهر الفوضى في العالم.

من المُستبعد أن يكون السلام والعدل من أولويات الروس، ولكن في تجاهل هذين الشرطين ما لا يوحي بإمكانية الكلام عن ضوء في آخر نفق الشرق الأوسط الطويل.