الناقد والرسام الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا (أرشيف)
الناقد والرسام الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا (أرشيف)
الإثنين 16 يوليو 2018 / 20:50

ما بعد الغرب

من المتفق عليه ولا يجادل فيه أحد أن أدبنا الحديث نبت على ضفة الأدب الغربي، فهو بالتأكيد لم يواصل إلا هكذا حقبه أو أساليبه. فهو في الغالب صدر عن عملية تأثر واسعة.

نتفق على أن أدبنا الحالي والسابق عليه يعكسان مرآة الغرب في أدبنا ولغتنا. الغرب ككل والغرب كعموم والغرب كعنوان، لكن لا يتبع ذلك أسماء وأمثلة وشروحات

ونستطيع أن نقول دون تردد أن أدبنا الحديث هو تجلي الغرب والأدب الغربي في لغتنا، وأدبنا هذا محل إجماع ويصح كعنوان ويؤخذ على أنه خلاصة القول وغايته. لكن الأمر يقف عند هذا الحد وقلما يحظى بتفصيل وتعيين، وقلّما تعرف دقائقه وحواشيه، وقلّما ينعم بفهرست وأرشيف.

 والحال أننا نتفق على أن أدبنا الحالي والسابق عليه يعكسان مرآة الغرب في أدبنا ولغتنا. الغرب ككل والغرب كعموم والغرب كعنوان، لكن لا يتبع ذلك أسماء وأمثلة وشروحات. لا يتبع ذلك تأريخ من أي نوع ولا تفصيل من أي ناحية. نعرف بالطبع أن تحولات أدبنا وأساليبه وتقنياته لم تأت من الغيب.

نعرف أن الغرب ككل والغرب كانعكاس وحضور، والغرب كاستشراف واستجلاء، أن الغرب كان هكذا في خلفية ما جرى في أدبنا وكان في إجماله واستحضاره متجلياً في كل تطور سلكناه وفي كل انعطاف تحولنا اليه.

في هذا نكتفي بالإجمال والعموم، ولا نبحث في الدقائق والتفاصيل، ولا نسأل كيف تم ذلك، وعلى أي نحو وفي أي سياق، وكيف تلاقت لغتان أو أكثر، وكيف حلت الترجمة في اللغة الأم، وما هي الأسماء وما هي المصادر. نكتفي بالعموم ونكتفي بالإجمال ونكتفي بالعنوان، بدون أن نحقق في ذلك أو ندقق أو نعين.

 لا نسأل إذا كان هذا التأثر المفترض حقاً وأين بلغ وأين صارت حدوده. لا نسأل اذا كان شاملاً أو جزئياً، ولا إذا كان موقوفاً على اسم وعلى أثر، ولا نسأل لماذا كان ذلك الإسم لا غيره ولماذا كان هذا الأثر لا سواه. لا نسأل إذا كان هذا الأثر عن طريق الترجمة أو عن طريق الأصل وكيف صودف هذا التأثير ولماذا حل.

نتكلم عن الشعر حينما نطرق هذا الباب، فالشعر أضيق حيزاً وأكثر حصراً من سواه، لكننا إذ نصل إليه لا نتجاوز أسماء بعينها وآثاراً بعينها. نعرف أن السيريالية الفرنسية وغير الفرنسية تركت أثراً ويمكننا أن نستجلي هذا الأثر في مؤلفات بعينها. نعرف أن أثراً كهذا يتم ضمن قابليات اللغة وجهوزيتها وقوالبها واستداراتها، أي بنيانها وطبيعتها.

لكننا مع ذلك، على ثقتنا في تأثير السيريالية الفرنسية لا نعرف أين كان تأثير إليوار وهو الذي نفترض أنه من المؤثرين؟ واذا ابتعدنا عن السيريالية الفرنسية وجدنا أنفسنا قبالة اليوت وويتمان في الشعر الانجليزي والأمريكي، ومرة ثانية نكاد نسمي جبرا ابراهيم جبرا وتوفيق صايغ.

هذه التسمية لن تنفع، فإن ما طرأ على شعرنا تحت تأثير الشعر الانكليزي والأميركي لم يكن في أبرز امثلته باهراً، ولم يكن ما فعله في الشعر العربي واللغة العربية متوائماً معهما، منحلاً فيهما. بل بدا كأن اللغة تعرضت هنا لتطويع وإجبار وشعر تعرض بدوره لعسف حقيقي.

نعرف أن ويتمان ترك أثراً طيباً في الشعر العراقي، وأن ويتمانية هذا الشعر لم تكن متعسفة، ولا مفروضة. مع ذلك لا نسأل عن بقية التأثيرات. لا نسأل عما فعله في أدبنا الشعر الألماني، ريلكه وباول تسيلان وتراكل وبريخت.

الأرجح أن هذا ليس بيناً ولا واضحاً رغم أن بين شعرائنا من يعرف الألمانية، فؤاد رفقه، على سبيل المثل، لم يكن هؤلاء الشعراء بالتأكيد بلا تأثير. لا بد أنهم أثروا لكن تأثيرهم بقي بينهم وبين من أثروا فيهم.

وهؤلاء بالتأكيد موجودون لكنّ عملية إعادة إنتاج شاعر أو استجلاء شعر في لغة أخرى ليست سهلة. ان مهمة النقد أساسية هنا، كما أن هذه المهمة ضرورية لتأريخ الأدب وسبره.