الكاتب التشيكي فرانز كافكا (أرشيف)
الكاتب التشيكي فرانز كافكا (أرشيف)
الأربعاء 18 يوليو 2018 / 20:19

مناخ كافكا

كنتُ في السابق أقرأ الأعمال الأدبية وأشاهد الأفلام السينمائية، واليوم، وهذا يتعلق بالعمر، أفضل إعادة قراءة بعض الأعمال الأدبية ومشاهدة بعض الأفلام السينمائية. العدد قليل وقابل للنقصان مع الوقت.

كنتُ في السابق أقرأ الأعمال الأدبية وأشاهد الأفلام السينمائية، واليوم، وهذا يتعلّق بالعمر، أفضِّل إعادة قراءة بعض الأعمال الأدبية ومشاهدة بعض الأفلام السينمائية. العدد قليل وقابل للنقصان مع الوقت

أفكر في تصلب شرايين الذوق. مواسير من رصاص أو حديد زهر لا تسمح بدفق الأعمال الفنية. كسل عقلي أكثر مما هو دفاع عن مبررات سقوط الأعمال. كنتُ فيما مضى أدافع عن مبرر سقوط رواية أو فيلم. والآن أقدر فقط على نصف قراءة أو نصف مُشاهدة، لرواية أو فيلم، والنصف المُكمّل والممتع يقع على عاتق الذاكرة. أشاهد هذا الفيلم من منتصفه مثلاً، وعند مشهد محدد خايلني بإلحاح دام يومين أو أكثر، وبعون المشاهدات الكثيرة السابقة التي كان إحصاء عددها مبعث فخر وتباه في وجه زملاء مِهْنة وأصبحت الآن مع الاقتراب من الخمسين متعة شخصية لا تحتاج إلى إثبات، وبعون ذاكرة بقرة تجتر إلى ما لا نهاية، أستعيد ما قبل المشهد وما بعده، وفي أحيان يكون المشهد المراد مشاهدته عرضة لعدم التركيز والشرود. الحقيقة أنني الآن توقفتُ بمعنًى حَرْفي عن قراءة الأعمال الأدبية ومشاهدة الأفلام السينمائية.

أعلنتُ، وهو ليس الإعلان الأول من نوعه، فقد أعلنت مرات كثيرة ما أعلنته اليوم، هزيمتي أمام الوقت، ولأن كلمة الإعلان قد تعني عرضاً تراجيدياً أمام جمهور يتطهر بهزيمة البطل، ولأنني لا أملك جمهوراً مرفهاً متسكعاً على نواصي الأوقات الفارغة، فقد أعلنت الهزيمة أمام مرآة الحمام العريضة.

وكانت كلمات الإعلان مبهمةً باهتةً قياساً ببلاغة النظرة والإيماءة. ويحدث في إعلانات بطولية من هذا النوع، أنه كلما كانت البلاغة الاستعراضية ناصعة كلما طالتْ في المستقبل استراحة المُحارِب، وكأنّ إعلانات الهزيمة السابقة ما هي إلا مناورات فاشلة لالتقاط الأنفاس ثم العودة من جديد إلى ساحة المعركة تحت شعار، هل من مُبارز؟ بعد إعلان الهزيمة، وأثناء تضميد الجراح، وتحت لذة اليأس، تتراقص حولي أوقات خفيفة كالفراشات حول مصباح. أفكِّرُ أن نزع جناحين لفراشة واحدة ليس اختراقاً صريحاً لزمن الاستراحة.

حلمتُ أنني أقف في شرفة عمارة، وكان حاجز الشرفة سميكاً آمناً، سمح لي برضع كوب الشاي وعلبة السجائر على سطحه الرخامي. كان الوقت صباحاً. وكانت شرفتي في الطابق الرابع، وكانت الشرفة المُجاورة القريبة في مستوى نظري، من غير حاجز، ويقف فيها فرانز كافكا، وكان يطرق بين الحين والآخر على شيشها الخشبي، ويمنع نفسه من النظر القهري إلى الأسفل.

أشرت له فيما يشبه طلب الأوتوغراف. ابتسم لي بخجل، وعاد إلى الطرق على شيش الشرفة. تذكرت أنه وصف مرةً في يومياته أربعة أعمال في طور الكتابة كانت تقف أمامه كخيول برية، وهو الآن يقف أمام شيش شرفة مُغلق. أشعلتُ سيجارة، وأخذتُ رشفة شاي وقلت له: هل تعلم أن ارتفاع شرفة في الطابق الرابع لعمارة قديمة مثل هذه يُعادل ارتفاع شرفة في الطابق العاشر لعمارة حديثة.

في حلم يقظة وجدت فرانز كافكا واقفاً على جسر خشبي ضيق. كان مستنداً على سياج الجسر كما يفعل مُتَبطل على ناصية شارع تاركاً الوقت يرمي له بصيدٍ. لكن الجسر يُغلق الشارع فيما يشبه المطب الاصطناعي. كانت العربات تعبر الجسر ببطء، وكانت ألواح الخشب تطقطق وتتفزز تحت عجلاتها، وكان كافكا مع مرور كل عربة يقع تحت إحراج حالات ثلاث دون حسم واضح لإحداها، الأولى هي الإشارة بأن تأخذه العربة في طريقها، والثانية هي ترك الإشارة تأتي من العربة، والثالثة هي أنه يجب عليه أن يلتصق بسياج الجسر التصاقاً شديداً حتى لا يمثل عائقاً أمام مرور العربات، ومع هذا الحرص الكافكاوي كانت العربات العريضة الفارهة تخبط جانب خصره بمراياها المُجنِّحة ثم ترتد لوضعها.

اشتريتُ صورة جدار من معرض تصوير فوتوغرافي. كانت الصورة بالأبيض والأسود لقوالب طوب حراري، وكان دقيقاً في تفصيلاته. وكانت زاوية الكاميرا قريبة ومباشرة في وجه الجدار، إلا أن الإضاءة الخافتة في زمن التقاط الصورة جعلتْ الفواصل بين قوالب الطوب غائرة وشديدة السواد والانتظام. كان برواز الصورة متيناً، من خشب الزان، وكان يخلو من الزخارف. رجعتُ إلى البيت سعيداً بامتلاك الصورة، وكنتُ قد عرفت مكان تعليق الصورة قبل وصولي إلى البيت. في غرفة المعيشة الواسعة، وتحديداً على الحيطة العذراء الباقية من حيطان الغرفة. في ظهر برواز الصورة من أعلى خطافان صغيران.

 حددتُ بقلم رصاص مكان الخُطافين على الحائط ثم دققت في الحائط مسمارين رفيعين إلى عمق مُناسب. علقتُ بيدٍ الخُطَّاف الأول في المساحة الحرجة بين رأس المسمار والحائط، بينما يدي الثانية في نفس الوقت، وعلى امتدادها تُطمئن وتتقدم عمى الخُطَّاف الثاني.

 استوت صورة الطوب الحراري المُفصل الآن على الحائط. ابتعدتُ خطوات إلى الوراء، ونظرت إلى الصورة برضى. بعد يومين من السعادة بالصورة الفوتوغرافية، فكرتُ في معانٍ أخرى.

كنت أقوم من النوم فجأةً، وأنظر إلى صورة الجدار وأقول في نفسي: إن جداراً وراءه حائط أمر غير مريح.

زاد تفكيري في الأسبوع الثاني من امتلاك الصورة. تذكّرتُ أنني أخذتُ كارت المصور الفوتوغرافي، وفي الكارت عنوان الأستوديو والتليفون. هل كنتُ أريد سؤال المصور الفوتوغرافي، لماذا الطوب الحراري في الصورة؟ وهل هذا المكان حقيقي؟ وهل من الممكن أن أراه بعيني؟ فكرت أيضاً أن أسئلة من هذا النوع كانت ستبدو طبيعية أثناء شراء الصورة، لكنها الآن ستبدو وكأنها محاولَة منه لاسترداد النقود وإعادة الصورة، وهو قد لا يريد هذا.

في الأسبوع الثالث من امتلاك الصورة أصبح البيت جحيماً، وأخذتُ في تمضية أوقات طويلة خارج البيت. وتَفوق معنًى واحد دون باقي المعاني، وهو صورة جدار من ورائه حائط. استدعيتُ عامل بناء، وطلبت منه تفريغ مساحة الحائط وراء الصورة. فهم عامل البناء بشكل تلقائي أنني أريد في تلك المساحة نافذة. ضحكتُ من عامل البناء، وأفهمته أن فكرة النافذة مستحيلة، فهذا الحائط أمامه جدار كبير لعمارة مُقابلة.