الناقد الفرنسي من أصل بلغاري تزفيتين تودوروف (أرشيف)
الناقد الفرنسي من أصل بلغاري تزفيتين تودوروف (أرشيف)
الخميس 19 يوليو 2018 / 19:40

نحن والآخرون ...تمثيلات السفر الثقافيّة من وجهة نظر تودوروف

رغم أنَّ تودوروف في هذا الكتاب لم يقفْ إلا على النماذج الفلسفيّة الكبرى في الفكر الفرنسيَّ لمساءلة "النحن والآخرين" مساءلة فلسفيةّ عميقة، إلا أنَّ أطروحته بالإمكان توسيع أفقها الفلسفيّ الأخلاقيّ والثقافيّ لتضم نصوصًا فلسفية كبرى منذ الفكر الفلسفيَّ الإغريقيّ

عندما انتهى الناقد الفرنسي من أصل بلغاري تزفيتين تودوروف من كتابه الاستثنائي "فتح أمريكا، مسألة الآخر" لم يكن راضياً تماماً عن الكتاب رغم اعتزازه به، فقد كان معنياً فيه باستنطاق عشرات الروايات من مصادر مختلفة عن فتح أمريكا، عشرات الروايات التاريخية المتضاربة والمتناقضة التي تقود في النهاية إلى أطروحة الكتاب الأساسية وهي: كيف تستطيع الاستيلاء على الآخر واستلابه من خلال الاستيلاء على لغته وثقافته! ولذلك تظلّ مسألة "الأنا" و"الآخر" بالنسبة إلى تودوروف مسألةً في غاية الأهمية، الأمر الذي جعله يستكملها في كتاب ضخم يغلب عليه الطابع الفلسفي الأخلاقي هو كتاب "نحن والآخرون" ساءل فيه واستنطق عشرات المصادر الفلسفية الكبرى في تاريخ الفكر الفرنسي.
 
يقول تودوروف في تصديره لكتابه "موضوع هذا الكتاب هو العلاقة بين النحن، المجموعة الثقافية والاجتماعية التي ننتمي إليها، والآخرين، هؤلاء الذين لايشكلون جزءاً من هذه المجموعة. العلاقة بين تنوع الناس ووحدة النوع الإنساني. وهو موضوع عملت فرنسا على إعادة اكتشافه، كما أنه يخصني شخصياً.

في هذه الأثناء، وبدلا من عرض أفكاري حول هذا الموضوع، قمت بسؤال المفكرين الفرنسيين الذين عالجوه من قبل: مونتيسكيو وحتى سيغالان مروراً بمونتاني، وليفي شتراوس. وحتى لا أحيد عن الحقيقى، انطلقت في هذا البحث متفقاً مع آراء هؤلاء المفكرين آنًا، وضدها آنا آخر. هذا يعني، أني عملت على الامتناع أيضاً عن الاحتفاظ بدور المؤرخ.

طوال فترة عملي، لم يكن هدفي هو التعرف إلى الأشياء كما كانت فحسب، وإنما كيف يجب أن تكون أيضاً، كنتُ أريد أن أعرف وأحكم. نحن لانستطيع دراسة الآخرين فقط، لأننا نعيش معهم دوماً وفي كل مكان وفي كل الظروف.

في مقالة في الكتاب عنوانها "رحالون حديثون" يحاول تودوروف تفكيك تمثيلات الرحالة تفكيكاً ثقافياً، ويذكر أنه هنا لايحاول أن يقدم تصنيفاً محدداً بقدر ما يحاول أن يقدم إلينا صوراً لهويات تقوم على وجوه مختلفة وأطوار سفر مختلفة انطلاقاً من السؤال المحوري:كيف يفكر الآخرون؟ أو كيف نعيش مع الآخرين؟. ومن الصور التي وقف عندها صورة المتمثل،بكسر الثاء، الواردة في أدبيات روسو وسيغالان، وهي صورة نادرة نسبياً في الزمن الحاضر، المتمثل هو ذلك الذي يريد تغيير الآخرين ليشبهوه.

إنه مسافر شمولي من حيث المبدأ ويؤمن بوحدة الجنس البشري، لكنه يفسر عادة اختلاف الآخرين وكأنه نقص عندهم بالمقارنة مع مثله الخاص، ويمثل هؤلاء بمرحلة الاستعمار الأوروبي، والفكر التبشيري، المسيحي، ويتمثل كذلك في العصر الحديث ببعض الآيديولوجيات الشمولية مثل الماركسيّة. . وهناك أيضاً "المستفيد" وهو رجل الأعمال التاجر الذي يقوم موقفه تجاه الآخرين على توظيفهم لمنفعته، إنه يُراهن على غيريتهم لـ"يخدعهم" كما يقول سيغالان، ويتمثل في أنموذج استعماري قديم للتاجر الكولونيالي.

وهناك "السائح" وهو الزائر المستعجل الذي لايهتم كثيراً بسكان البلد ولا بهويات سكان الأرض، وتقوم علاقته مع الآخرين على علاقات سطحية ضحلة ثقافياً، فمعرفة الأعراف الإنسانية تتطلب وقتاً، كما يقول شاتوبريان، وغياب اللقاءات مع الذوات المختلفة مريح جداً.

 وهناك السائح"الانطباعي" وهو سائح محسن جداً، فهو أولاً يملك من الوقت أكثر مما يملكه المسافر في إجازة، ومن ثمّ فهو يوسع أفقه ليتسع للكائنات الإنسانية، ثم أنه أخيراً لايعيد إلى بلده، مجرد كليشات سواءً كانت مصورة أم كلامية، كما يفعل الآخرون، وإنما لنقل إنه يعيد مخططات إجمالية مرسومة أو مكتوبة شيء واحد يجمع بين هؤلاء المسافرين، الذين قد يكونون من جهة أخرى مغامرين أو محبين للتأمل، ذلك أنه ما يهمهم حقاً في كل هذا، هو الانطباعات التي تركتها هذه البلدان أو هذه الكائنات فيهم، وليست البلدان أو الكائنات بحد ذاتها أو كما يقول ميشو في إحدى رواياته عن السفر "أقول وللمرة الأخيرة: الناس الذين لايساهمون في اكتمالي، صفر". وهناك أيضاً السائح"المتمثل" وهو على الأغلب الذي لا يقوم بالسفر إلا ذهاباً فقط، إنه المهاجر، وهو يريد معرفة الآخرين لأنه مساق للعيش بينهم، ويريد أن يشبههم لأنه يتمنى قبوله بينهم، وهنا يتم استبدال سيطرة الأنا بسيطرة الأنت، ومن ثم استبدال التشوه الإثني المركزي بالمقولب المحلي.

أما "السائح المغرب أو الغريب" فهو الذي يلجأ دائمًا إلى إجراء مقارنات ضمنية مع بلده، وهذا يعطيه مزية اكتشاف نواقص الآخر، أي ما لا يُرى. وتشبه شخصية"المنفي" في بعض جوانبها شخصية "المهاجر" وهو يفسر تجربته وحياته في الغربة على أنها تجربة اللاانتماء لوسطه.

ويمثل الفيلسوف الفرنسي ديكارت المنفي الأول والأكبر في الفكر الفرنسي، فقد اختار العيش لفترة في هولندا، ليؤلف أعماله الفلسفية دون انتماء إلى مكان ما. أما السائح "المجازي" فهو الذي يفسر الأمم والجماعات الأخرى تفسيراً مجازياً، وذلك لإسقاط هذه المجازات على مشاكل ثقافية تخص ثقافاتهم هو.

أما المسافر" خائب الأمل" فهو الذي قد يجول العالم كله ولكنه يكتشف في خاتمة الأمر أنه لم يكتسب أي معرفة استثنائية، وأن السفر الداخلي في أعماق نفسه هو الأهم. يقول ميشو في كتابه "بربري في آسيا" مستندًا إلى الحكمة الشرقية البوذية" لا تهتموا بطرق تفكير الآخرين امكثوا في جزيرتكم أنتم ملتصقين بالتأمل".

أما "المسافر الفيلسوف" فيقوم على ملاحظة الفروق لاكتشاف الصفات الكونية الكبرى لاكتشاف العالم ولمعرفة الذات.

رغم أنّ تودوروف في هذا الكتاب لم يقفْ إلا على النماذج الفلسفية الكبرى في الفكر الفرنسي لمساءلة "النحن والآخرين" مساءلة فلسفية عميقة، إلا أن أطروحته بالإمكان توسيع أفقها الفلسفي الأخلاقي والثقافي لتضم نصوصاً فلسفية كبرى منذ الفكر الفلسفي الإغريقي مروراً بنصوص المفكرين والفلاسفة في الحضارة العربية والحضارات الإنسانية الأخرى.

ولم يكن تودوروف في هذا الكتاب يصدر عن مركزية فرنسية فكرية حاكمة بقدر ما كان راغباً في ضبط حدود موضوعه وضبط مدونته البحثية، ووقوفه عند تمثيلات المسافر الثقافية هي من النصوص الثقافية التي تستحق الوقوف عندها وبعمق وهي لم تحظ إلا بمعالجات فلسفية وثقافية محدودة. هذا الكتاب في ترجمته العربية صادر عن دار المدى الدمشقية وبترجمة الدكتور ربى حمود.