رسمة شخصية للفنان أسامة بعلبكي.(أرشيف)
رسمة شخصية للفنان أسامة بعلبكي.(أرشيف)
الإثنين 30 يوليو 2018 / 19:31

أسامة بعلبكي

ليست غرفة أسامة بعلبكي سوى الغرفة المكتملة في غُرَفِيتها، وليست غابته سوى الغابة المكتملة في غابِيّتها، وليست مدينته شبه المحرومة، المدينة الدامسة والخالية أحياناً من التفاصيل، سوى المدينة في تمام حضورها

ليس في معرض أسامة بعلبكي في غاليري صالح بركات في بيروت صدمة للناظر أو استفزازاً. جلّ ما في الأمر أن المتفرّج لا يجد مسافة بينه وبين اللوحة. فهذه اللوحة تطابق عينيه أو تؤانسهما، إنها ما رسب في لا وعيهما، ما يوجد كلوحة بالنسبة لهما، ما ينتظم في لوحة. لا يصدم أسامة بعلبكي متفرّجه أو يستفزه، إنه بالعكس يحيله إلى نفسه، يحسّ أن اللوحة هي، على نحو ما، وبدون أي عسف تشعّ من عينيه. إن البيت المرسوم يكاد يكون بيته وهذا الممدّد في طرف اللوحة يكاد يكون هوَ، والسيارة الواقفة في حيّ تكاد تكون في حيّه، والليل الذي يشعشع فوق المدينة هو الليل يشعشع فوق مدينته. ليس مهماً في ذلك أن تكون اللوحة واقعية، بل العكس على الغالب هو ما يحدث. ليس بيت أسامة بعلبكي أي بيت ولا مدينته أي مدينة ولا شخصيته الممدّدة أي شخصية، ولا ليله أي ليل، ولا السيارة التي رسمها أي سيارة. لسنا في معرض الدارج والأليف ولا العادي. أسامة بعلبكي لا يخالف العادي، لا يخالف الواقعي والدارج بصراخ أو بعلانية ومجابهة. إنه يفعل ذلك بخفة، أكاد أقول بحرفة، يفعله بدون أن يبدو فاضحاً أنه فعله. يأتي من الخلف ومن الخلف يغيّره تماماً، يجعله أحياناً بالعكس، بدون أن يبدو أن يده امتدت إليه ولعبت به وغيّرته. بل يبدو غالباً أن التعديل يصححه وأن ما بقي هو الأكثر حقيقية، بل هو الحقيقي كما يبدو لنا في سرنا، الحقيقي كما يجب أن يكون.

ليست غرفة أسامة بعلبكي سوى الغرفة المكتملة في غُرَفِيتها، وليست غابته سوى الغابة المكتملة في غابِيّتها، وليست مدينته شبه المحرومة، المدينة الدامسة والخالية أحياناً من التفاصيل، سوى المدينة في تمام حضورها، ولا يهمّ أن نرى كتلها وتفاصيلها فهذا الحبر الذي لوّنها وعتّمها جعلها مدينة أكثر. يمكننا على سبيل المثال أن نلاحظ عدداً من اللوحات تضم في جزءين متراكبين، مدينة متوّجة بسماء غائمة، إنها السماء ممدودة فوق المدينة، لكنها قد تكون، من ناحية أخرى، النهار والليل مجتمعين في السماء والمدينة. من لم يرَ اللوحات قد يتخايل له أن السماء مظلمة بينما الحياة واليقظة تدوران في المدينة، في الأسفل. لكنه لن يلاحظ، في ما لو رأى، أن اللوحة مركبة بالعكس تماماً. دوارات الغيم تذكر بدوارات الشمس عند فان غوغ ودينامية الغيوم المجدولة والإضاءة التي تتعرج مع الغيمة وتشرق عليها، فيما المدينة تحت وقد ضغطها العتم ومحا تفاصيلها وجعلها جداراً أسود تحت الغيم الفائر المشرق. مع ذلك لا يتساءل المتفرج وقد أخذه هذا التفارق بين المدينة والغيم المدينة والسماء، أيهما النهار وأيهما الليل، أيهما المدينة وأيهما السماء.

لن يلاحظ المتفرج هذا التفارق ولن يسأل نفسه أو غيره هذا السؤال، لأنه لا ينتبه الى هذا التعاكس ولن يلقي على اللوحة ذلك السؤال. لن يغفل عن أنه أمام لوحة، وأن هذا أسلوب اللوحة وفحواها ومادتها وتركيبها. بل سيتراءى له وهو ينظر الى الليل الذي يشعشع فوق مباني المدينة، أن انفجارات الليل فوق المدينة هي بؤرة الليل وماهيته، وأن المدينة الغارقة في العتم هي المدينة في تمام حضورها. سيلاحظ المتفرج أن البورتريهات العديدة التي صنعها أسامة بعلبكي لنفسه، والتي تنمّ عن حرفة عالية، ليست بعيدة عن المتفرج الذي يكاد يرى نفسه فيها. إن المصوّر يلعب كما يقول الموديل لنفسه لكنه هكذا يغدو فعلاً موديلاً، ويغدو في أوضاعه وأحواله خارج نفسه، بحيث يستطيع الملاحظ أن يضع نفسه مكانه. لا لأن الرسام غفل عن خصوصيته بل لأنه أدار هذه الخصوصية بحيث تبدو مناسبة لكل من يُحسن أن يرى.

اللوحة هي الأصل، واللوحة عند أسامة بعلبكي في خفتها وسلاستها وقوة تعبيرها، واحدة. فلأسامة بعلبكي أسلوب يستقطب الأنماط المدرسية. إنه ما بعد الانطباعية لكنه أيضاً ما بعد الواقعية الجديدة وما بعد فن الثمانينات، وتبقى له مع ذلك حرفته ولوحته.