تعبيرية.(أرشيف)
تعبيرية.(أرشيف)
الإثنين 30 يوليو 2018 / 20:29

قضية الدخان.. الوطن ليس سيجارة

إذا كان الأردنيون مهتمين بمتابعة الكشف عن تفاصيل قضية الدخان، فإن ذلك يعود إلى قناعتهم بضرورة محاربة الفساد وتحجيمه والحد من نفوذ الفاسدين، حالهم في ذلك حال أي شعب آخر يريد العيش بلا منغصات

يتابع الأردنيون منذ أسابيع وقائع الكشف عن قضية فساد كبيرة صارت تعرف إعلامياً باسم "قضية الدخان"، ويبدو من التفاصيل التي يتم الكشف عنها يوميا أن القضية كبيرة، وأن هناك مخالفات واضحة للقانون وأضرار فادحة بالاقتصاد في بلد يعاني أصلاً من شح الموارد والضغوط الاقتصادية الكبيرة التي يواجهها الأردن نتيجة تمسكه بثوابت عروبته وبعلاقته الأبدية بفلسطين.

لكن هذه القضية، على خطورتها، تظل قضية فساد تتابعها الأجهزة المختصة، وهي أجهزة مشهود لها بالكفاءة والقدرة، ويجب ألا تخرج عن هذا النطاق، ولا أن تغطي على الانشغالات الأخرى للدولة في مرحلة سياسية أقل ما يقال عنها أنها بالغة الخطورة، ليس على مستوى الأردن فقط، ولكن على مستوى حاضر ومستقبل الإقليم والمنطقة برمتها.

على النقيض مما كان يجري في عهود حكومات سابقة، تعاملت حكومة عمر الزاز مع قضية الدخان بشفافية واضحة، وحرصت وزيرة الإعلام جمانة غنيمات على كشف التفاصيل الواقعية للقضية أمام الجمهور ووسائل الإعلام بما يغلق الباب أمام التكهنات والإشاعات والوقائع المتخيلة التي يجري تضخيمها في بعض المنابر بهدف الإثارة دون إدراك ما تحدثه من تشويش ضار وحرف للأنظار عن مسارات الجهد السياسي المبذول في مواجهة الاستهدافات والضغوط الكبيرة التي يتعرض لها الأردن في هذه المرحلة الصعبة، بحكم موقعه بين بؤر التوتر المشتعلة في المنطقة، حيث يندلع الحريق السوري في الشمال وينفجر الغضب العراقي في الشرق وينتفض الفلسطينيون غرب النهر دفاعاً عن أرضهم ومقدساتهم.

وفي زمن "الفوضى الخلاقة"، لم يكن سهلاً على الأردن أن يتعايش مع المتغيرات التي اجتاحت المنطقة كالعاصفة السوداء، لكنه فعل، وظل محافظاً ليس فقط على كيان الدولة، بل حافظ أيضاً على نموذج متفرد في الاستقرار والسلم الأهلي المتحقق في قلب العاصفة، وظل قبلة للباحثين عن الحياة في زمن الموت المحدق بعرب الألفية الثالثة.

بالطبع لم يكن ذلك مريحاً لبعض أصحاب الأجندات، فواصلوا البحث عن ثغرات أو منافذ لاقتحام الداخل الأردني بالأكاذيب والإشاعات المفضوحة التي كان آخرها بيان مجهول المصدر يربط بين قضية الدخان وصفقة القرن!

واستغل هؤلاء حالة التضخيم الإعلامي لقضية الفساد الأخيرة لإثارة البلبلة والإيحاء بالانهيار وخلق حالة من اللايقين في نفوس الأردنيين. لكن الوعي الجمعي الأردني خيب أملهم، وكشف استحالة إحداث الاختراق في الشارع المتوحد في الدفاع عن الدولة. وتحول البيان المذكور إلى مادة للتندر والسخرية في أحاديث الناس.

وإذا كان الأردنيون مهتمين بمتابعة الكشف عن تفاصيل قضية الدخان، فإن ذلك يعود إلى قناعتهم بضرورة محاربة الفساد وتحجيمه والحد من نفوذ الفاسدين، حالهم في ذلك حال أي شعب آخر يريد العيش بلا منغصات. لكنهم ليسوا ساذجين حد الاعتقاد بمنطقية الربط بين قضية الدخان وصفقة القرن الأمريكية، لأن الرأي العام الأردني له محدداته الوطنية والقومية، وهي محددات لا علاقة لها بعبث فاسدين أو تجاوزات بعض أصحاب النفوس المريضة، بل هي قناعات راسخة بالمسؤولية والواجب للدولة وللمجتمع وللقضايا المصيرية، وهي أيضاً محددات يفرضها الانتماء القومي والقناعة بأن الأردن القوي الآمن ضرورة ليس للأردنيين فقط ولكن لأشقائهم الفلسطينيين والسوريين والعراقيين.

ولعل أصحاب البيان السيئ يدركون أن الوطن هو الوطن ولا يمكن أن يختصر في قضية دخان ولا أن يتحول إلى سيجارة.