شارلي شابلن في فيلم "يوم القبض" 1922.(أرشيف)
شارلي شابلن في فيلم "يوم القبض" 1922.(أرشيف)
الأربعاء 1 أغسطس 2018 / 20:01

أنا هنا اليوم

مهارة عامل البناء في التوازن على سقَّالات مرتفعة، مهارة واقعية، يعرفها المُشاهِد في خبراته اليومية، وهنا تكمن عَظَمَة شابلن، الذي ينطلق دائماً من الواقع البسيط المُتاح لكل إنسان، ثم يُضيف إليه، ويحذف منه، بحسب رؤيته الخاصة

لا يزال اسم شارلي شابلن (1977-1889) الممثل والمخرج والكاتب والمؤلف الموسيقي، الاسم الأكثر لمعاناً وشهرةً في عالَم السينما. بعد سنتين فقط من ظهور شابلن في السينما، ملأت الأسواق دُمى شابلن للأطفال، ومسابقات شابلن في المجلات والصحف، كما ظهرتْ رقصة اسمها "مشية شابلن"، وانتشر مقلدوه في كل مكان. كانت دور السينما تضع على أبوابها رسماً كاريكاتيرياً لشارلي، وعليه هذه العبارة "أنا هنا اليوم"، والعبارة بالطبع لا تجد صعوبة في اجتذاب الجمهور إليها. لم يكن المتفرج يهمه اسم الفيلم أو قصته بعد عبارة "أنا هنا اليوم".

بدأتْ قصة شارلي مع الشاشة، بداية قوية، فعندما تعاقد معه استوديو "كيستون" في 1913، كان أجره 150 دولاراً في الأسبوع، وهو رقم كبير لممثل شاب، كان حتى هذا التاريخ يعمل ممثلاً فكاهياً في فرقة إنجليزية من فرق "الفودفيل"، التي كانت تقوم بجولة في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان أجره فيها 50 دولاراً في الأسبوع. وفي عام 1915 تعاقد استوديو "إساناي" مع شابلن بأجر أسبوعي 1250 دولاراً. وفي العام التالي التحق بشركة "ميوتيوال" بأجر قدره 10000 دولاراً في الأسبوع، بالإضافة إلى علاوة قدرها 150000 دولاراً في السنة. وفي عام 1917 وقَّع شابلن، وكان عمره 27 عاماً، عقداً مع شركة "فيرست ناشيونال" بمبلغ قدره مليون دولار، لتقديم ثمانية أفلام قصيرة في 18 شهراً.

تشارلز سبنسر شابلن تهيأتْ له منذ البداية كل العناصر اللازمة لصنع الأساطير، فالغموض يكتنف أصل أبويه. عاش سنتين تعيستين في أحد ملاجئ الأيتام في لندن، وتعلّم الرقص والتعبير في نفس الوقت الذي تعلّم فيه المشي. وعندما بلغ السابعة من عمره كان يكسب قوت يومه. كان يرقص في مسرح استعراضي. بعد ذلك جاءتْ فترة أخرى من المتاعب الشديدة، فقد نُقلتْ أمه إلى مستشفى الأمراض العقلية، فأصبح بلا بيت، بلا أسرة، ولا أحد يريده. تسكَّع في الشوارع، ثم وجد في سن العاشرة عملاً منتظماً في فرقة "شارلوك هولمز" المسرحية. وفي عام 1906 ساعده أخوه الأكبر سيدني في الالتحاق بفرقة "كارنو" المسرحية التي تمتاز بتقديم فن البانتوميم، والألعاب الأكروباتية، والمونولوجات الفكاهية، وظل شابلن يعمل مع فرقة "كارنو"، وهي الفرقة التي دفعته للسينما في عام 1913.

في فيلم "Pay Day" أو "يوم القبض" 1922، تبدو مهارات شابلن الأكروباتية التي يعود فضلها لفرقة "كارنو" المسرحية، عندما يقف على سقَّالة، كعامل بناء بسيط، ومن أسفل ترتفع له قوالب الطوب، بشكل عمودي، وهو يلتقطها بيديه من الخلف، ويقوم برصها أمامه. شابلن ظهره للكاميرا، ويعتمد على انتظام ارتفاع قوالب الطوب من عاملي البناء في الأسفل. خطان هوائيان سريعان لقوالب الطوب، على جانبي السقَّالة. شابلن بتوافق عصبي أكروباتي، تلاقي يداه قوالب الطوب الهوائية، أثناء اندفاعها لأعلى، فيسهل عليه امتصاص حركتها، والتحكُّم فيها، ودون النظر إليها أيضاً. تساعد شابلن قدماه إذا ازداد الضغط على الخطين الهوائيين. يُثبِّتْ شابلن قالب الطوب على كعب قدمه، كلاعب كرة، لتلتقطه اليد برشاقة. طرافة الانسجام الحركي لجسم شابلن، مع اندفاع قوالب الطوب من أسفل، ووضعية شابلن المائل على تنسيق مجموعات من الطوب المتراص، من أجمل مشاهد الفيلم.

الجدير بالذكر أن مهارات شابلن الجسدية، وهي واضحة في كل أفلامه، لا تشذ عن الانسجام مع المواقف الدرامية البصرية للفيلم، وهي مواقف درامية كوميدية، تسمح بمرور المهارات الأكروباتية، وتخفف من وطأتها، ثم تدرجها أخيراً في قيمة الفيلم الجمالية. من جانب آخر، على سبيل المثال، مهارة عامل البناء في التوازن على سقَّالات مرتفعة، مهارة واقعية، يعرفها المُشاهِد في خبراته اليومية، وهنا تكمن عَظَمَة شابلن، الذي ينطلق دائماً من الواقع البسيط المُتاح لكل إنسان، ثم يُضيف إليه، ويحذف منه، بحسب رؤيته الخاصة.

في عام 1972 مُنح شارلي شابلن، جائزة الأوسكار الفخرية، وعلى خشبة المسرح كان شابلن يتقدم ببطء، في الثالثة والثمانين من عمره، ولم يبق على وفاته سوى خمس سنوات. وبعد ابتسامته بالعرفان للتصفيق الطويل، والتي كانت ابتسامة تراجيدية، ربما بسبب التقدم في العمر، حاول شابلن استعادة الكوميديا، فهو سيد المهارات الجسدية، وحملتْ قبعته الشهيرة، تاريخ مهارات القذف بها في الهواء، بضغطة سحرية، ترتفع القبعة في الهواء، ثم يستعيدها شابلن بين يديه، أو على رأسه. غمزتْ يداه المتصلبتان القبعة، لتقفز في الهواء عالياً، كان يفعل هذا كما يتنفس، لكن القبعة رفضتْ، ووقعتْ مُهَانَة، فمال شابلن على الأرض، ليأخذ قبعته، وتحولتْ ابتسامته إلى مزيد من التراجيديا.